كلّ كتابةٍ تقصد آخرَها، إذ تقترح له علاقة أو تواصلا أو فهما معه، أو تستعيره قناعا لمواجهة وهم القوة أو الضعف، فالقناع هنا تأويل لفعل غائب، نستعيده عبر اللغة، أو الصورة، وبقدر توتر هذه العلاقة، إلّا أنها تتجوهر في السياق الأدبي عبر تموضعات تأخذ من الحدث، أو من الشخصية قوتها التمثيلية في التعبير عن الفعل الأدبي بوصفه السردي أو الشعري..
هذه الكتابة تضع نصّها في سياق تخيّل ما، فالآخر الثقافي يظل وجودا أو احتمالا، أو خطابا نوجّه الكتابة من خلاله الى القارىء/ المتلقي تحت ضغط الرغبة أو الحاجة او اللذة، أو التماهي، أو كجزء من فاعليات صناعة الرسالة، وبقصد إدخال القارىء في لعبة اللذة أو البحث عن المعنى، مقابل استعادة القوة من خلال فاعلية البثِّ بصيغة إحداث فعل السيطرة أو المراقبة أو التغيير..
العلاقة مع الآخر في جوهرها علاقةٌ مع الأنا اولا، الأنا التي تمثل عين الآخر كما يقول بول ريكور، والتي تبحث عن وجودها واشباعها وقوتها من خلال ذلك الآخر، لأن لا وجود لفرضية التواصل والتفاعل أو البث إنّ لم تكن الأنا المُنتجة أو المولدة تملك قدرة على حيازة شروط وأهلية هذا الانتاج وذاك التوليد..
لكن تظل لشروط انتاج النص او الخطاب رهانات لها علاقة بالأيديولوجيا وبالقوة، وبهوية الآخر الذي يحضر عادة بوصفه التمثيلي والرمزي، واحسب أنّ السرديات الروائية كان أكثر تعبيرا عن هذه العلاقة، فالسرد يعني في بعض وجوهه الحكي الى الآخر، مثلما يعني تخيّل وجود الآخر عبر علاقات أو تمثلات أو معان، أو اقنعة..
صور الآخر في الرواية العربية هي صور الأنا في لحظة انشدادها أو تماهيها أو تأثرها، وأحيانا في لحظة ثأر لاوعية، إذ حفلت عديد الروايات العربية بتقديم نماذج لهذا الآخر، فهو الآخر الطبقي، الاجتماعي، السياسي، الجندري/ الجنسوي، الأيديولوجي، لكنه يحضر بصورته الخطيرة والغامضة من خلال وجهه الاستعماري، الاستشراقي، والديني..
وهذا يعني بطبيعة الحال استحضارا لموضوعات اشكالية تخصّ الهوية، والسلطة واللغة والجسد، وعبر رمزيات وتمثيلات لها شفراتها الواضحة، كما في روايات(عصفور الشرق) لتوفيق الحكيم، و(موسم الهجرة للشمال) للطيب صالح، و(الحي اللاتيني) لسهيل ادريس، وبعض روايات الطاهر بن جلون وحنّا مينا، وأمين معلوف و(ليلة المليار) لغادة السمّان ورواية(روائح ماري كلير) للحبيب السالمي..
فالجسد يكتسب في هذا السياق طاقة تعبيرية نافذة، مثلما أنّ اللغة تتحول الى قوة تمثيلية خلاقة، وأنّ ملفوظاتها توّسع وتعمّق من فاعلية الخطاب السردي، على مستوى بثّه، أو على مستوى تلقيه، والله هي الأخرى تعاني اغترابا عميقا، من خلال ضعف القدرة في التعبير عن المكبوت والحاجة، أو مواجهة الآخر واكراهاته، أو عن ما يتمثله مأزق الهوية لحظة اصطدامها واستلابها في بيئة الآخر، وفي تمثلاته الاجناسية عبر صورة التابع كما عند هومي بابا، أو العبد كما عند هيغل، او الارهابي كما في سرديات العقل الغربي..
اللغة في هذا السياق تعيش نقائضها، فهي إمّا أنْ تفقد محليتها وحصانتها، ومرجعياتها النفسية لتكون لغة الآخر هي الوسيلة والواسطة والمجال الذي تتنافذ من خلاله شفرات التعبير عن الوعي، أو الخوف أو الحرمان والشبق واللذة أو الكراهية والحب والحقد، وهو مانجده في كثير من الروايات الفرانكفونية، وإمّا أنْ تستعيد عُصابها، وأوهامها المقدسة عبر توظيف ماهو تاريخي أو ديني بنزعته السلفية، ..
على المستوى الفني فأن تنوّع تقانات السرد ينطلق من تنوع زوايا النظر للشخصيات، ولتمثلاتها الشعورية واللغوية، ولما تعيشه من وقائع يختلط فيها الاستلاب الجنسي والطبقي، مع التوصيف والعنف العنصري، والعزل الغيتوي، وبما يجعل اكتشاف الأنا والآخر يتبدى أكثر من خلال سرديات الذاكرة، والسير ذاتي، وماتهجس به تلك الشخصيات الساردة من مشاعر مكبوتة، وذوات منفية وضائعة، وهي سرديات مفعمة بالنوساتالجيا أو الحزن، وتصدّع الهوية، والإحساس بالمتاهة واللاجدوى والعجز،
الأنا وأقنعة الآخر الثقافية
التعليقات مغلقة