قصص من المونديال
العواصم ـ وكالات:
من نافذة صغيرة يبزُغُ شُعاع ضوءٍ يختفي شيئًا فشيئًا. شعاع كان يُحدِّق فيه شاب نحيف، يقف في أحد جوانب الحجرة، ترتسم على محياه، علامات الحزن واليأس.
جثا ذلك الشاب المدعو باولو روسي، على ركبتيه لعدة دقائق، قبل أن ينهار تمامًا، ويسقط مسندًا ظهره للحائط، يبكي حظه وحيدًا خلف القضبان.
لم يكن قطار العمر، قد اجتاز محطته الـ 24 بعد، لكنَّه كان يمضي سريعًا إلى أكثر النهايات مأساوية ودراماتيكية، لينتهي به المطاف داخل أحد السجون بعدما حُكِمَ عليه بالحبس لمدة 3 سنوات في أعنف فضيحة للتلاعب بنتائج المباريات في إيطاليا.
وراح شريط ذكريات الماضي البعيد، يَمُرُّ أمامه بسرعة البرق، يعود بذاكرته لسنوات بعيدة، عندما بدأ مشواره الكروي في أحد الفرق الصغيرة بضواحي مدينة فلورنسا، ولم ينسَ فرحته الهائلة، عندما علم بأنَّ يوفنتوس يرغب في الحصول على خدماته.
يعود بذاكرته إلى خطواته الأولى في النادي، ولم يكن عمره وقتها يتعدى الـ 17 عامًا، ويتذكر كيف أنَّه تحدَّى الجميع، عندما لم ينل فرصته ليقرر التنقل بين أكثر من فريق، بداية من كومو، ثم فيتشينزا، وبروجيا، ليثبت أنَّه هداف من طراز رفيع.
يتذكر (باولو) كل تلك الأمور، ويعضُّ على يديه من الندم، بعدما تورَّط في قضية المراهنات التي ضربت الدوري الإيطالي عام 1980، لينتهي به المطاف بين هذه الجدران الأربع.
وبينما كان الشاب ذو الموهبة الفذة، المولود في صيف عام 1956، يبكي حظه وحيدًا خلف قضبان زنزانته الصغيرة، وانصراف الجميع عنه، كانت الأقدار تُسطِّر فصلًا جديدًا في مسيرته التي تبدو منذ الوهلة الأولى، قصة من وحي الخيال، لكنَّها حكاية من الواقع، للاعب موهوب وهداف انفجر فى سن 21 عامًا.
عبر (باولو)، محنته بعدما طرق الحظ، بابه من جديد، فقد خفضت عقوبته من 3 سنوات إلى سنتين، بل كانت المفاجأة الكبرى، عندما قرر يوفنتوس التعاقد معه، رغم أنَّه لا يزال سجينًا، وأمامه شهر أخير قبل الانطلاق للحرية مرة أخرى.
لكن المفاجأة المدوية كانت عندما استدعاه المدرب إينزو بيرزوت، لتشكيلة المنتخب الذي سيُشارك في مونديال 1982 بإسبانيا، وهو ما قوبل بانتقادات شديدة.
كان (روسي) في تلك الفترة، يلتزم الصمت تمامًا، يُحدِّثُ نفسه بأنَّ الفرصة، قد جاءته مرة أخرى، ليجعل تلك الحناجر التي تتلمز بكل قبيح عنه، تهتف رغمًا عنها باسمه، لكنَّ الأمر لم يكن بهذه السهولة.
بدأت البطولة، وفشلت إيطاليا في تحقيق أي فوز بالدور الأول، لتتأهل بخجل إلى الدور الثاني، بعد 3 تعادلات، وفشل روسي، في هز الشباك، لكنَّ مدربه لم يفقد الثقة به على الإطلاق، وتحلى معه بالصبر، في انتظار اللحظة الكبرى.
وتأهلت إيطاليا للدور الثاني، لتقع إلى جانب الأرجنتين والبرازيل، وما أدراك ما البرازيل، التي كانت في أوج تألقها، بما تمتلكه من تشكيلة رائعة تضم سقراط، وزيكو، وفالكاو، وغيرهم، وراحت تلتهم الخصوم واحدًا تلو الآخر، مما جعلها المرشح فوق العادة للقب.
نجحت إيطاليا في تخطي عقبة الأرجنتين، وغاب روسي أيضًا عن التهديف، قبل أن تفوز البرازيل على التانجو، لتكون موقعة إيطاليا، والسامبا هي الحاسمة في التأهل لنصف النهائي.
كانت الضغوط تتزايد على روسي، وفي مساء الأحد 4 تموز 1982، عشية مواجهة السامبا، تذكر (باولو) كل ما مرَّ به، وكيف أن بيرزوت أعاده للحياة مرة أخرى، ولن يكون هناك أفضل من تلك المباراة، لرد الجميل له على صنيعته له.
وانطلقت المباراة، وجاءت اللحظة الحاسمة، وبالتحديد في الدقيقة الخامسة، اذ تقدم روسي بكل قوة داخل منطقة الجزاء، ليقابل كرة عرضية من الناحية اليسرى برأسه في الشباك، معلنًا تقدم إيطاليا، وسط فرحة غامرة به، من جانب رفاقه.
لكن الكبرياء البرازيلي، لم يكن ليقبل أن يستقبل هدفًا، من دون أن يُبادل بالرد السريع الذي تحقق عن طريق سقراط بعد 7 دقائق على هدف روسي.
هدف سقراط لم يكن ليثبِّط من هزيمة روسي، الذي تنفَّس رحيق الحياة من جديد في ذلك اليوم، وهو ما ظهر في تصميمه، عندما انقض على الدفاع البرازيلي المرتبك ويخطف الكرة، ويسدد صاروخًا معلنًا تقدم إيطاليا من جديد.
بيد أن البرازيل، لم تكن لتفرط في حلم أفضل أجيالها بكل سهولة، وضغطت بكل قوة حتى حققت مرادها، وتعادلت في الدقيقة 68، بتسديدة صاروخية من فالساو.
لكن يبدو، أن روسي، صاحب الـ 26 عامًا، قد خرج من سجنه لإنهاء حلم أفضل أجيال البرازيل، فسجل الهدف الثالث قبل النهاية بربع ساعة، ليقود إيطاليا بالتأهل لنصف النهائي.
لم يكتف باولو روسي بإبعاد البرازيل، بل سجل هدفين بالدور نصف النهائي في مرمى بولندا، ليصل بمنتخب بلاده للنهائي ضد ألمانيا، ويساهم في تحقيق لقب كأس العالم، بتسجيله هدفاً من ثلاثة.
ونال (باولو) جائزة أفضل لاعب وهداف بالبطولة، وأفضل لاعب بالعالم، وأصبح صاحب أحد أشهر القصص في تاريخ بطولات كأس العالم.