دراويش

ليس بوسعي الآن أن أتذكر سحنات أولئك الدراويش الذين كانوا يمرون بقريتنا، ويستريحون قليلاً قرب دارنا. ولكنني ماأزال أتبين العبوس الذي ارتسم على وجوههم، والصمت المطبق الذي خيم على هيآتهم. في ما بعد اختفى هؤلاء تماماً، ولم أر أحداً منهم باستثناء مناسبة واحدة على ما أظن، في مسجد السليمانية الكبير، أواخر عقد السبعينيات.
كان الانطباع الذي خرجت به في كلتا الحالين سيئاً. فبالنسبة لفتى مثلي آنذاك كان المظهر الجميل أكثر أهمية من أي شئ آخر. وكان هؤلاء بشعورهم المنسدلة، وثيابهم الرثة، أقرب ما يكونون إلى مخلوقات منقرضة بالية.
وزاد في الطين بلة أن دعاة التحديث في بلداننا كانوا يشنون الهجمات عليهم في الكتب ووسائل الإعلام. وكانت بعض الحركات الإسلامية تحملهم وزر التخلف الذي أصاب مجتمعاتنا، والضعف الذي حل بشعوبنا. في ما كانوا هم غير ميالين للدفاع عن أنفسهم على الإطلاق.
ولكنني حينما شرعت بقراءة نتاجهم الفكري، ومدوناتهم الأدبية، علمت أنهم براء من كل ما نسب إليهم. وأنهم أقرب للعصر من خصومهم الآنفي الذكر، وأكثر استنارة منهم. وأدركت أن التصوف أو العرفان الإلهي هو «علم إصلاح القلوب وتطهير النفوس وتصفية البواطن من الرذائل». ومثل هذه القيم النبيلة لا يمكن أن تقود إلى التخلف، أو تفضي إلى الجمود.
بل إن هذه القيم إذا ما شاعت في مجتمع ما فإنها ستقيه من الموبقات، وتحفظه من الزلل، وتعينه على تلمس طريقه وسط الظلام.
ولعل واحدة من أفضل ما دعت إليه الصوفية هي فضيلة التسامح. وقد روي عن جلال الدين الرومي (ت 1273 للميلاد) أنه لم يكن يؤثر ديناً على دين، ولا ملة على ملة أخرى. وكان يتعامل مع المسلمين والمسيحيين واليهود على قدم المساواة، ويرى أنهم لا يختلفون عن بعضهم بعضا في الباطن. وله شعر غزير في هذا الموضوع باللغتين العربية والفارسية، ترجم إلى لغات عديدة، حتى بات أكثر الشعراء تأثيراُ في الولايات المتحدة. وغنى له مطربون كثر، من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: مادونا !
لقد باتت مفردة التصوف شائعة في الأدب العربي الحديث. وطفق الشعراء الجدد يتغنون به في كل مناسبة. منذ أن اكتشفوا الحلاج الدرويش المصلوب، ومنذ أن عرفوا ابن الفارض الشاعر المحلق. ومنذ أن قرأوا السهروردي الفيلسوف القتيل. والكثير من الأسماء اللامعة الأخرى في تراثنا العظيم.
لم يعد من شروط المهنة أن يسدل المريد شعره، ويضع الخرقة على جسده. ففي هذا وسواه إلزام لا لزوم له، وقيد لا ضرورة فيه. وقد يكون الصوفي ذا شعر أسود براق، أو صلعة لامعة أنيقة! وقد يكون شاباً في غاية الوسامة والحيوية، أو امرأة حسناء ذات خفر ودلال. فالرثاثة لم تعد هي المعيار الوحيد للصوفية في هذا العصر مثلما كانت في الماضي. وقد تغيرت مفاهيم كثيرة في هذا العالم. وهذه واحدة منها من دون شك.
أليست هذه الفكرة بديلاً مقبولاً للدعوات الصارمة التي حاولت إصلاح العالم فدمرته، وسعت إلى نشر الوعي فأجهزت عليه، وقررت أن تصنع السلام فلم يصدر عنها غير الآلام والمشكلات والحروب؟
محمد زكي ابراهيـم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة