شعرية العنونة.. في رواية (كم أكره القرن العشرين)

عبد علي حسن

أولت المناهج النقدية الحديثة عنوان المنجز الإبداعي أهمية استثنائية ، ووضعت الدراسات العديدة والتنظيرات حول العنوان وأهدافه وأنواعه ، ولعل وراء هذا الاهتمام، التقدم الحاصل في رؤية المبدعين ازاء عنوان المنجز والاهتمام به بعده العتبة الأولى التي يلتقي بها القاريء وامكانية عدها بنية صغرى تعاني الإفتقار لحاجتها الى مايكمل فضاءها الدلالي ، وبذا فقد تم تحويل مهمة العنوان من التفسير وتقديم المعنى جاهزا الى امكانية التأويل الذي تسمح به ايحاءات الفضاء الدلالي ، وعدها دالة مستقلة حينا وباحثة عن مدلولها الذي يتوصل اليه المتلقي في تأويله بقطع النظر عن الرجوع للنص ، وحينا آخر لايمكن التوصل الى مدلولها الا بالعودة الى المتن وعدها جزءا منه . وفي الحالين فإن العنوان يتمتع بقدرة تحقق الفضاء الدلالي الذي يفضي الى مدلول يتم التوصل اليه من قبل المتلقي عبر آلية التأويل .
وعلى وفق ماذكر آنفا سنقوم بالكشف عن شعرية عنوان رواية (كم أكره القرن العشرين) للروائي العراقي عبد الكريم العبيدي الصادرة عن دار قناديل للنشر والتوزيع /بغداد الطبعة الأولى /2017 .
والشعرية التي نعنيها هي قدرة العنوان في تخليق بنية دلالية تتطلب تدخل المتلقي للبحث عن مدلول ينسجم مع تلك البنية ، ولايتم ذلك الا عبر فاعلية التأويل التي يتطلبها التشويش أو الغموض او المفارقة التي ينتجها العنوان.
ففي موضوع ورقتنا فإن عنوان الرواية يتخذ وضعا اشكاليا يحاور المتلقي الذي لايصادف سهولة او تبسبطا دلاليا استهلاكيا وانما يضع المتلقي في منطقة دهشة ازاء جملة خبرية شكلت بنية عنوان عدها الروائي العبيدي مدخلا لمتن روايته ، اذ ان اداة الاستفهام (كم) تخلت عن وظيفتها الاستفهامية الى وظيفة لغوية أخرى تعني الكثرة أو تعظيم الكراهية للقرن العشرين ، ولعل هذا التعظيم يدفع المتلقي الى البحث عن مدلول الدالة التي ثبتها العنوان.
لذا فقد انتجت هذه البنية الصغرى بنية افقار بحاجة الى بنية أكبر لفك التشويش والغموض في العتبة الأولى للرواية وسيندفع المتلقي في دخوله الى المتن الحكائي للرواية بموجهات ذلك التعظيم للكراهية بحثا عن دوافعها واسبابها ، لذا فقد حقق العنوان مهمة ووظيفة العنوان من خلال إثارة المتلقي وإغرائه للدخول الى متن الرواية ومتابعة أحداثها ليصل الى المغزى المنتج تأويلا يعد مدلولا لدالة العنوان الذي توضحت وظيفته بعدها وظيفة إغرائية تحفيزا لمرجعية المتلقي واستدعاء مكونات منظومتها الفردية والجمعية أثناء وبعد قراءته للرواية التي تمكنت من بث العديد من وجهات النظر المتعلقة بمسببات الكراهية للقرن العشرين الذي إتصف بالجنون وإحداث الفوضى ونشر عوامل الانتهاك وتهديد الوجود البشري.
هذا القرن الذي بدأ — على مستوى انساني — بحرب عالمية اولى وانتصف في حرب عالمية ثانية في حين شكلت الحروب الداخلية التي عاشتها الشعوب بفعل الدكتاتوريات البغيظة في آخره حربا ثالثة ، ومن هذه الشعوب ءالشعب العراقي الذي عانى ويلات الحروب والإضطهاد السياسي والاجتماعي مادفع ابناءه مغادرة الوطن على كراهة كانت من عوامل الاحساس بالاحباط والمهانة في بلدان الاغتراب منذ ثمانينيات القرن العشرين وربما منذ سبعينياته ، وظلت الهوية الوطنية في منطقة وسطى بين الوطن والمهجر.
كل ذلك جرى تفصيليا وبمقدرة سردية اوجدت شكلها المناسب لتكون حياة ( مولود) الشخصية المركزية الغائبة الحاضرة والدفاتر والأوراق التي ضمها الصندوقان الأسودان الأول والثاني مادة الرواية الحكائية لتعلن بذلك دخول منطقة الميتاسرد ، اذ ان الروائي قد بذل جهدا كبيرا في تجميع المادة الحكائية لشخصية من شخصيات الهامش الاجتماعي بانتمائها الى البلوش الذين يسكنون أطراف المدن خاصة في مدن جنوبي العراق ، وحالة الغربة والترحال بين الدول المجاورة لبلده العراق الذي هاجر منه كما فعل العديد من العراقيين منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى استقر به الحال غريبا في هولندا ليواجه موتا بالسرطان اسهم الوضع الاستثنائي لحياته في تمهيد الاصابة به ( اقسم لكم ان الهرب هو اللون الآخر للحرب ، ليس للهرب فرق بين ماهو فوق وماهو تحت ، كلاهما هرب ، واذا وجد ثمة دخيل فهو خائن …..النص ص 48) لذا ف (مولو) يدرك تماما ان الهرب من حرب داخلية هو الذهاب والهرب الى حرب أخرى قد لايجد فيها ذاته.
وبإمكان المتلقي تجميع الخيوط الحكائية لمتن الرواية ليصل الى مدلول دالة العنوان فيعرف اسباب تكريس بنية الكراهية المعظمة للقرن العشرين ، قرن الغربة عن الذات والأوطان وقرن الخوف بكل تشظياته وقرن الانتهاكات وتهديد الوجود البشري ..قرن يستحق تلك الكراهية .
وتسهم العنوانات الداخلية في تكريس شعرية العنونة ، ولطبيعة السرد الماورائي فإن الروائي يلجأ الى وضع المادة الحكائية التي تسلمها من اخت مولود على شكل أوراق ودفاتر ، تحت عنوانات اسهمت في تخليق الحافز القرائي للوصول الى مدلولات تلك العنوانات ، فيقسم مادته الحكائية الى صندوقين يحملان صفة الصندوق الأسود الأول والثاني ، واذا ماعرفنا مدلول ومعنى هذا الصندوق الاسود قبل الدخول الى محتوياته فإننا سنعرف بأن في هذين الصندوقين المخفي في حياة مولود التي أراد أن يطلع عليها صديقه الروائي — الراوي كلي العلم — ليكتب عنه رواية عبر ماوفره من دفاتر واوراق وهذيانات لتكون أحداث رواية حياته ، فقد تبدت الوظيفة الإغرائية لعنوان الرواية الرئيسي والعنوانات الفرعية الداخلية على نحو واضح وكانت حافزا ودافعا لإثارة فضول المتلقي للدخول الى المتن الروائي والوصول عبر فعالية التأويل الى مدلول تلك العنوانات التي احسن الروائي صياغتها لتحوز على وظيفة قرائية لاتبتعد عن الصياغات المحدثة للعنوان بعده عتبة النص الأولى، وكلما تقدم المتلقي في قراءة الرواية التي بلغ عدد صفحاتها (434) صفحة يدرك مدى الظلامات والانتهاكات التي تعرض لها الفرد العراقي عبر هذه المعلقة التي من الممكن عدها شاهد عصر على قرن خلق كراهيته الطواغيت .
لقد قدم الروائي عبد الكريم العبيدي في روايته الجديدة هذه ( كم أكره القرن العشرين) خلاصة المعاناة التي تحمل وزرها المواطن العراقي في بلده وفي بلدان المنافي ليظل غريبا عن بلده وذاته ، كل ذلك عبر صياغة سردية واعية ومدركة للعبة السردية بدءا من العنوان غني الدلالة وحتى آخر صفحة من الرواية التي اتصفت بسعة احداثها ومحاولتها الاستفادة من تقنيات الميتاسرد وتنويع الروي وتوزيعه على الراوي العليم والراوي كلي العلم لتغدو — الرواية — واحدة من المنجزات الروائية العراقية المهمة والممتعة بخطابها الجمالي والمعرفي.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة