علي حسن الفواز
تحتفي الناصرية بشاعرها الراحل عقيل علي، وتضعه عنواناً لمهرجان الحبوبي الثقافي، وبقدر أهمية هذا الاحتفاء برمزيته، وباجرائيته في السياق الثقافي، فإنه يضعنا من جديد أمام غابة الاسئلة التي لم تُمسْ، والتي تتعلق بما غامض في تاريخنا الشعري، وطبيعة الأجيال الشعرية التي أثارت حولها جدلا كبيراً، والتي كان عقيل علي واحداً من أولئك الذين انشغل بهم الوسط الثقافي، مقابل الاحتفاء الكبير به عربياً، إذ حملت قصيدته غرابة في صورتها، وفي اشتغالها، وفي رؤيتها للوجود.
عقيل علي يعود مع الناصرية الى الواجهة، الى لعبة التدوين والمحو، وكأن هذه اللعبة هي السر الذي يتعلّق دائماً بالشعراء المثيرين للصخب والقلق، فرامبو وبودلير وهولدرين والشابي والسياب كلهم عاشوا أعمارا قصيرة، لكنّ تاريخهم الشعري ظل مفتوحاً مثل بركان، له احتمال التفجّر دائماً.
عقيل علي والاستعادة
قبل عامين أصدرت «مؤسسة أوروك» كتاباً استعادياً ضمّ مجموعتين شعريتين للشاعر عقيل علي مع مجموعة ثالثة حملت عنوان «دوزنات» والتي لم تنشر سابقاً. هذا الإصدار عملٌ يضيء تجربة هذا الشاعر المُثير للجدل، والذي عاش حياته لصيقاً بالخوف والحزن والهشاشة، مثلما ضم الكتاب عدداً من الكتابات بقلم نقاد وشعراء عرفوه عن كثب..
استعادة الشاعر إلى الذاكرة تشبه الى حد كبير الدعوة لاستعادة الحديث عن حكاية لم تنته فصولها، أو لحظة وجدٍ عتيقة لها رائحة الألفة، لأنّ فعل الاستعادة سيكون شغفاً أكثر مما هو هاجس للقراءة، مثلما سيكون باعثاً للتحريض على تفتيش سرائر القصيدة وحمولاتها ومجازاتها. الكتاب الشعري الجامع الذي أصدرته «مؤسسة أوروك للإنتاج الثقافي» عن الشاعر الراحل عقيل علي بعنوانه الاستعادي «طائر آخر يتوارى وقصائد أخرى/ انطولوجيا شعرية» (بغداد ــ 2015) يضعنا أمام هذا الهاجس. عقيل علي (1949 ـــ 2005) شاعر اختلف كثيرون حوله، برغم أن قصائده التي جمعها وأعدها الشاعر والمترجم كاظم جهاد تحولت إلى أثر شعري لتجربته المثيرة للجدل، وصدرت في كتابين شعريين حملا عنوانين هما «جنائن آدم» و«طائر آخر يتوارى». صدر الأول عن «دار توبقال» في المغرب عام 1990، والآخر عن «دار الجمل» (باريس ــ كولونيا) عام 1992. عقيل علي لم يشأ أن يكتب سيرته في القصيدة، بقدر ما كان يكتب حدوسه، ويلتاذ باللغة لأنها منقذه الطهراني من بشاعة ما يحوطه، وما يثير في نفسه الضآلة والانكسار. كان بـ«الرغم من هشاشته الظاهرية، يتمتع بقدرة على «شعشعة» الجراح. قدرة نادرة مكّنته من بلورة نشيده الشعري بعيداً عن النواح المتفجع ومنعه من أن يتنازل عن كثافة اللغة الشعرية» كما يقول كاظم جهاد (ص381).
ضم الكتاب مجموعتيه السابقتين مع مجموعة ثالثة حملت عنوان «دوزنات» لم تنشر سابقاً. قصائدها تنوش ذاكرة الحرب التي عاشها جندياً، والحياة التي عاشها لصيقاً بالخوف والحزن والهشاشة، فضلاً عن العديد من الكتابات النقدية حول حياة الشاعر وتجربته، بقلم نقاد وشعراء عرفوا تجربته عن كثب (كاظم جهاد، حاتم الصكر، أوروك علي، كريم ناصر، علي البزاز، خليل مزهر الغالبي، كريم شلال ومازن معروف).
عقيل علي والحساسية الشعرية..
حاولت هذه الكتابات أن تلامس حساسيته الشعرية، وقلقه الشخصي، وهربه من الشهرة، ورؤيته الشعرية التي انحاز فيها الى كتابة قصيدة النثر، تماهياً مع روادها، أنسي الحاج بشكل خاص، دونما تأثير واضح من أقرانه الشعراء الذين انشغلوا بهوس المغامرة والتجريب أمثال: شاكر لعيبي، خزعل الماجدي، زاهر الجيزاني وهاشم شفيق وغيرهم. حتى بدت قصيدته لصفائها تميل إلى الاكتفاء بنفسها، فلا نجد تناصات واضحة، ولا مقاربات مجاورة لشفرات التاريخ أو للخطاب الديني والأسطوري. انشغلت قصيدته بفكرة البحث عن المعنى، والتوقف عند الجملة القصيرة المحببة التي تستغرقه بإحساس غامر بكثافة الوجود، مع افتضاح ملتبس لرهاب «الأنا» التي تتكئ على الحلم كثيراً. برغم قصرها، تكتظ جملته بالاستعارات التي تكشف عن قسوة اغترابه الداخلي، وإحساسه العميق بالموت.
استعادة عقيل علي المولود عام 1949 بعد رحيله في 15/5/2005 تكشف عن جوانب خبيئة في الزمن الشعري العراقي، إذ يرث الشاعر الكثير من مراثي الخوف القديم، فهو يكتب موتوراً، فزعاً، يخشى أن تطاله أشباح السلطة، أو أشباحه الشخصية. يبحث عبر الكتابة عن اطمئنانات واهمة لا تنقذه من «سأم المدينة» البودليرية التي جاءها متأخراً في التسعينيات باحثاً عن شغف قديم. لكنها لم تُسعفه، لأنها مدينة محاصرة مثله، وأفقدته الكثير من توازنه برغم توهجه الشعري الذي أثار حسد الآخرين وشككوا بتجربته الشعرية. ولولا جهود صديقه الشاعر والمترجم كاظم جهاد بالعمل على جمع قصائده لفقدنا أثره، فقد نشر ديوانه الأول «جنائن آدم» عام 1990 في «دار توبقال»، وكذلك طبع ديوانه الثاني «طائر آخر يتوارى» عام 1992.
تكتظّ جملته بالاستعارات التي تكشف عن قسوة اغترابه الداخلي، وعن وحشته إزاء عالم المدينة وسأمها، وعوالم صراعاتها التي أفقدته الاطمئنان، فلم يجد أمامه سوى اللغة لكي تكون نشيد اعترافه، وخلاصه، وزاويته التي يمارس عندها طقوس بوحه ولذته الخبيئة..
يقترح كاظم جهاد قراءةً خاصة لشعرية عقيل علي عبر عنونة مقدمته النقدية للكتاب «أبعد من الصمت ينتشر/ كدح فضاء شاسع»، إذ يضع القارئ أمام الكثير من فيوضات الشعر الذي يساكنه، والذي يضعه عند لحظة استنفار غريب، يهيم بالحياة، لكنه لا يطمئن إليها. يطارد المعنى فيوخزه عبر شفراته ليكون أكثر شراهة في التعبير عن وجوده المضلل، والعائم، إذ تكون صعلكته الوجودية والكحولية احتجاجاً على هذا الوجود. ويضعنا الناقد حاتم الصكر أمام شعرية السبعينيات وحضور عقيل علي في أجوائها الصاخبة. يجد في انعزال عقيل علي عنهم بمنزلة الحضور الضد، لإبراز خصوصية قصائده ومذاقها الخاص، وتمردها على الصوت الأيديولوجي الحاضر بقوة في الوسط الشعري العراقي. هذا الكتاب الاستعادي عن الشاعر عقيل علي يتيح للكثير من قرائه معرفته عن كثب، فكتبه التي صدرت في التسعينيات لم تصل من نسخها الى بغداد إلا مجموعة قليلة. وهذا ما دفع صاحب «مؤسسة أوروك» إلى القول في مستهلّ الكتاب: «تتبعت المؤسسة كل نتاجه وأوراقه الشخصية ونشرت بعض القصاصات بخط يده للتوثيق. هذه النصوص كاملة ما عدا ثلاثة نصوص هي «دوزنات» بحوزة الشاعر السوري نوري الجراح ولم نستطع الحصول عليها». هذا الحرص على استعادة موروث الشاعر وأوراقه يلقي بظلاله على «فقدانات» كثيرة في الذاكرة الشعرية العراقية المعطوبة برعب التاريخ والحروب والهجرات.