ثنائية الحضور والغياب في قصص «قالت له»

أشرف الخريبي يأنس باللغة الشعرية في نصوصه القصصية التي تتخطى المألوف
أحمد طوسون

تسعى الأنا الساردة في نصوص أشرف الخريبي «قالت له» إلى اكتشاف كينونتها من خلال تفتيت العالم والأشياء والمشاعر، وطرح أسئلة الغياب والحضور/ الموت والحياة/ الحلم والواقع/القهر والحرية، في الاعتماد على تشكيلات سردية، تتكئ على المعجم الصوفي بنية، ولغة، ودلالة، في كثير من نصوص المجموعة.
كما يأنس باللغة الشعرية في نصوص مجموعته القصصية.. التي تتخطى المألوف من تراكيب اللغة، والاشتغال على قاموسها وتراكيبها الخاصة، والتي أراها نابعة من الحس الصوفي الذي يغلف نصوص المجموعة بغلالته الشفيفة.
وإذا كان السارد يعمد إلى أن يواري الحدث داخل النصوص، حد كشف الكاتب داخل أحد نصوصه تلك التقنية السردية في نص «حكاية يتيمة»، حين يقول: (قصة تواري الحدث عن الآخرين في خجل) وهي سمة عامة في كتابات المتصوفة، بحثا عن انفتاح النص للتأويل، وعدم تقييده بالحدث المحدد بالزمان والمكان.
يلح الغياب على نصوص المجموعة منذ القصة الأولى «صباح.. مساء»، من أول جملة في مفتتح النص: (صباح من دونك لا معنى له).. الغياب الذي يحاصر الأنا الساردة، ويجعلها وحيدة متشظية، تحاول تفتيت العالم، والأشياء، والمشاعر إلى قطع سردية صغيرة لمحاولة فهمها، أو محاولة فهم سؤال الغياب الملح دوما على الأنا الساردة في جميع نصوص العمل.

يبدأ السارد بالصباح الموسوم في النص بــ (اللامعنى) مسبقا.. (صباح من دونك لا معنى له)، وينتهي في (مساء يحط فيه الظلام إسداله)، ليعود في دائرية لا متناهية إلى صباح ومساء جديدين، (يأتي الصباح فيمحو كل شيء ..
فأمضي
هكذا غائباً
فأعود للصباح في انتظار الضجيج، ).. حيث تتوحد الذات مع الآخر(المحبوبة) وتغيب بغيابها.
ولعلنا نلحظ الحضور الطاغي للمحبوبة داخل النص – على الأنا الساردة – برغم غيابها، فالوحدة القاتلة التي تعيشها الأنا الساردة إثر الحضور الطاغي للمحبوبة عند السارد.. (يفرش هذا الفناء نفسه في وحدة قاتلة).
يتخذ الغياب شكلا آخر للذات في نص «قالت له» المعنون به قصص المجموعة، فبرغم الحضور الجسدي من خلال المحبوبة، التي تتعدى دلالاتها إلى الحبيبة/الأم/الوطن/إلخ.. (تحسست رأسك، وجهك، عينيك، شفتيك، أذنيك، شعرك، ذراعيك، ساقيك. ولما قالت: أنا أعضاؤك انتثرت)
إلا أنا الغياب النفسي الروحي أشد وطأة، برغم كل التفاصيل الحياتية الصغيرة التي يعتني بها النص، تأكيدا على الحضور الجسدي.. (تدحرجت أقدامك المثقلة في حارات واطئة، مليئة بالأوساخ، وشوارع تضيق، تضيق، والدوران يمضغ أحشاءك، ويثقب بازدواج صميم وجدانك المنهزم).. إلا أنه حضور كالموت.. (مثل كل الميتين تغادر الجسد، وغادرت).. لأن الغياب عند أشرف الخريبي كما هو عند المتصوفة حضور.. والحضور غياب.. (كان السراب مُحكما وبارعا في جذب تفاصيل الدنيا).. أو كما يقول د. عدنان حسين العوادي في كتابه الشعر الصوفي: (يجوز أن نقول إن الغياب أصل، وإن الحضور فرع، أو أن الغياب جوهر، وأن الحضور عرض، أو أن الحضور دالة في الغياب).
فالحاجة إلى الحب في «قالت له» ليست حاجة جسدية يلبيها الإشباع الجسدي، بقدر ما تحتاج إلى إشباع روحي، غيابه يحول الأشياء إلى فراغ هائل (الفراغ ثمة شيء لا تعرفه يستغرقك، تعبت). إشباع الجسد قد يوهم باتقاد ما، (مشيت متوقدا)، لكن وعي الذات بالغياب النفسي، تجعل الأنا الساردة تنكر أي علاقة بالحضور الجسدي المتقد.. (لا . بل جلست منكبا، تقفل منافذ جسمك، تودع كل احتمالات البقاء، مكتظا بخلع أعضائك للريح).

إنها الرغبة التي تعتمل في النفس، بالتشيؤ أمام الفقد والغياب والموت.. أمام أنا منهوكة في طرح الأسئلة حد التعب.
• القهر/الغياب.. في نص طفولة:
يتلمس الكاتب مساحات الحضور والغياب عبر نصوصه، وفي نص «طفولة» تعي الأنا الساردة تفتتها، وتلاشيها، وغيابها منذ الطفولة البعيدة. (هل تفارق الطفولة اللذيذة عيني، أم تبعث الأشلاء والذكري من الماضي السحيق).
هذا الوعي الذي جعل من القهر الذي عاشته الأنا (القيود) غياب الحرية سببا للغياب، فلا يجد مخرجا إلا البحث عن مساحات الحرية (الحضور) الحياة في طفولة بعيدة غائبة تستدعيها الذاكرة، مساحات صغيرة وضيقة، وسط غيلان من القهر تحتشد بهم الذاكرة، لكنها كافية لاستدعاء حضور الذات، (كلما عانقتني الطفولة في فراغ الذاكرة الخبيئة، مساحات ضيقة جدا من الحلم تتوالي هنا وهناك).
الحضور الأهم في النص هو حضور هدى، حين استدعاها السارد في نهاية النص من دون تقديم، أو تهيئة للقارئ (مسكينة هدى .. تركتها هناك وحيدة، يتيمة بلا أي كلمة أخيرة).
والحقيقة أن السارد يمارس لعبته الفنية مع قارئه كما أسلفنا، فغيابها طيلة النص قبيل نهايته، هو تأكيد لحضورها في كل مفردة، وكل جملة صيغت بها القصة، فهدى هنا ترادف (المحبوبة)، المساحات الضيقة للحلم الذي غادرته الأنا الساردة، بمغادرة طفولتها «الحب الذي خنقته الجدران وقتله القهر» تحل محل الأنا الساردة بعذاباتها ووحدتها واستلابها. (أنت ما زلت ضيقا كالفراغ، وبما رحبت الأرض من هواء ليس لنا، وعبير ليس لنا، كانت بلاد تنام على أفق الغيم، لما استنزفت جذور الأشواق عريك المفضوح، كابوس كان يغطي أحلام نومك، ما زال يفرش الزمن). قوة الحضور لهدى (المحبوبة)، كانت في غيابها عن السرد، وبمجرد أن حضرت سرديا.. (مسكينة هدى .. تركتها هناك وحيدة، يتيمة بلا أي كلمة أخيرة.). غابت في واقع النص بالموت، والاستلاب، حين حلت في الأنا الساردة، أو حلت الأنا بها وتماهيا معا.
الحال كذلك في قصة هجر (واحدة من أجمل نصوص المجموعة) حين خرج الأب ولم يعد، فولد غيابه غيابا لافتا للأم (الحاضرة جسدا)، (غير أنها نامت أمام الشباك لسنوات طويلة بلا فائدة، برغم أن الرجل (الزوج)، أبي، ما زال يسكن برج الحمام صوته، وهديل غنائه، يفرش الموج بالشباك الكبيرة كي تقع الأسماك في الفخ..

ينادي يا حسن…
لكنه لم يعد..).
وحضور الأب في مفردات الحياة أكثر من الوجود المادي برغم الغياب، حتى يحلّا معا في حضور واضح للأنا الساردة في نهاية النص، (إذ أنها في هذا المساء البارد التالي، رأيتها بعيني تمرر يدها الطيبة على رأس الرجل الذي ما يزال حتى هذه اللحظة أبي.. وهو يغفو على حجر أمي الواسع.. في لحظة فاصلة).

يتبع

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة