نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار

هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 25
الفصل الحادي عشر
نصبا الجندي المجهول وشهداء قادسية صدام
نصب الجندي المجهول ، نصب شهداء قادسية صدام ، الندوة الفكرية الثقافية لنصبي الجندي المجهول وشهداء قادسية صدام , العثور على كنز من الليرات العباسية ,وفاة زوجتي سعاد علي مظلوم

كانت طريقة وضع المرمر لنصب الجندي المجهول وتبليطه واضحة في المقاولة . وللحفاظ على الوان المرمر ، اقترح الاستشاريون المعماريون استعمال طبقة من السمنت الابيض تحت البلاطات لإظهار بريق المرمر الاصلي . اقترح المقاول الثانوي ان لا يغسل المرمر ، بل يُكتفى بمسحه للمحافظة عليه . اتذكر جيدا ان المقاول الياباني قدم نماذج من المرمر الايطالي الى المعماري سامان كمال ، وبعد نقاش وبحث ، وافق على النماذج ووقع مصادقاً على الاستعمال ، وبذلك بدا المقاول باستيراد الكميات الكبيرة المطلوبة من المرمر الايطالي . تم تنفيذ العمل بأشراف ودعم دقيقين ، فبدأت الاوجه النهائية للمنصات والممرات التي يبلغ طولها نحو 700 متر وعرضها 50 مترا تتضح بنحوها الجميل الابيض اللماع بالوقت نفسه الذي كانت الاعمال الاخرى على قدم وساق والاعمال مستمرة على مدى 24 ساعة يوميا .
تمت الاعمال بموجب مناهج العمل الموضوعة ، واكملنا اعمال المشروع الذي تم افتتاحه يوم 17 تموز 1982 باحتفال كبير حضره رئيس الجمهورية واركان الدولة كافة .
بعد مراسم الافتتاح التقليدية اصطحبت رئيس الجمهورية صدام حسين وامين العاصمة سمير الشيخلي في جولة تعريفية باقسام المشروع ومرافقه .وقد نالت جميع اعمالنا اعجاب الحضور وعلى رأسهم رئيس الدولة . شرحت للرئيس وضيوفه حجر الافتتاح الذي اخترناه ليكون قطعة حجر طبيعية رسمت عليها الحدود
العراقية الايرانية ومواقع المعارك الكبرى التي دارت عليها
وقبل انتهاء الحفل ولتعريف من عمل على المشروع ، قدمت لرئيس الجمهورية المقاولين (متسوبيشي وكاجيما) والمهندسين والاستشاريين( M+R و Ove Arup) والمعماريين العراقيين للمشروع (وجدان و سامان وسعد) مع الفنان التشكيلي اسماعيل فتاح الترك .
قبل انتهاء فترة الصيانة ، بدأت تظهر تغيرات غير اعتيادية على شكل مرمر الممرات الخارجية والمساحات، وهي ظاهرة ما تسمى ( Dishing ) ، اي انحناء زوايا المرمر الى الاعلى لتكون قطعة المرمر اشبه بالصحن . بعد مراقبة دقيقة لما يحدث ، عرضت عليّ المشكلة بنحو رسمي لدراسة شتى جوانبها الفنية والتعاقدية والقانونية .
ادعى المقاول بعدم مسؤوليته عن المشكلة هذه وانه نفذ ما هو مطلوب بالمواصفات وقام بتنفيذ تعليمات المعماريين العراقيين واستورد المرمر المطلوب من قبلهم ونفذ العمل بإشراف الدائرة . اصررت على ان المقاول المسؤول عن العمل تشترط المقاولة عليه ان تكون له خبرة بالعراق والاعمال والمواد ، ( رغم اني من ناحية اخرى ارى ان ذلك من مسؤولية الاستشاري المعماري الذي حدد سمك 2سم للمرمر ومواصفاته ) ، ابلغت المقاول بمسؤولياته ، وان مبلغا قدره نحو خمسة ملايين دينار وهو الكفاله المصرفية سيبقى لدى الامانة لحين اكمال عملية الاصلاح .
كانت الشروط التعاقدية والهندسية ، تشير الى ان تحديد المواصفات والموافقة على النماذج هي من مسؤولية المعماري المصمم ، رغم صحة الاجراءات التي اتخذتها والتي اعتقد بها شخصياً ، الا ان هذا الامر ونتائجه هو موضوع مهم وقاسٍ ، تعرضت له وعوضاً عن شكري وتقديري على إجبار المقاول على تحمل تكاليف الاضرار وتبديل المواد الفاشلة الى مواد صحيحة تناسب متطلبات العمل , فإن المقاول ومع شريكه الخفي رتب قضية ادت بي الى تحمل صعوبات عظيمة. ساتحدث عنها في فصل قادم لما له من تاثير بالغ على مسيرة حياتي العملية والشخصية.
عليّ أن اشيد بالتعاون المتميز الذي تم بين جميع العاملين على المشروع والذي مكننا من انجاز مشروع متميز تعاون على انجازه مع امانة العاصمة اكبر مقاول عالمي ( ميتسوبيشي + كاجيما ) واكبر استشاري عالمي ((Ove Arop و (M+R) واشيد بمتابعات الفريق الاستشاري العراقي ( وجدان ماهر ) و ( سامان كمال ) و ( سعد الزبيدي ) والفنان اسماعيل الترك كما اشيد بجميع جهود مهندسينا بالموقع والعاملين الآخرين في امانه العاصمة ولمساهمتهم في إنجاز هذا النصب الكبير .
في النصف الثاني من القرن العشرين ، وهي الفترة التي شهدت الكثير من اعمالي ، لم تكن النظرة الى المفكرين ومشيدي الاعمال الكبيرة ، والعلماء الذين اضافوا الى الفكر العلمي والادبي والتطويري والتاريخي في العراق ، تستدعي وضع اسمائهم في قوائم المكرمين الذين عملوا على تطوير مجتمعهم وتقدمه ، مثلما ينظر الى عضو بسيط في حزب السلطة او ضابط يجيد استخدام ادوات القتل والدمار . اتضح ـ مع الاسف ـ ان من اهداف السياسيين عندنا ليس طمر اسماء اعضاء الاحزاب الاخرى او معارضيهم فحسب ، بل طمر اسماء جميع العراقيين .

العثور على كنز من الليرات العباسية
اثناء احد الاجتماعات الاسبوعية في نصب الشهيد اتصل بي المهندس جليل من مشروع عمارة وقوف السيارات مقابل متحف بغداد طالباً حضوري على الفور لأمر مهم في مشروعه .
انهيت الاجتماع بسرعة وذهبت اليه . استقبلني بكل حفاوة وقال «وجدنا كنز» ولم نجرؤ على فتحه ما لم يكُن بحضورك. في غرفة المهندس المقيم وعلى الطاولة وجدت الكنز وهو عبارة عن جرة مزججة من الداخل ذات عنق مزجج من الخارج بارتفاع نحو ( 30 سم) وقطر نحو (15 سم) محاطة بالطين المستخرج من موقعها جوار احدى الركائز الكونكريتية التي تم العثور عليها من قبل احد العمال المصريين عند الحفر اليدوي للقاعدة فوق الركيزة.
تم تنظيف الجرة واخراج محتوياتها وهو الكنز المقصود والمكون من مجموعة من الليرات الذهبية بعدد (396) ليرة بثلاثة احجام . تم تنظيف الليرات وفرشها على الطاولة لدراسة مكوناتها . وهي ثلاث فئات متشابهة ومن الذهب القابل للويّ وتعود الى عهود عباسية قديمة . اتصلت بعبد الحسين الشيخ علي وطلبت حضوره كوكيل امانة العاصمة . عند حضوره تم الاطلاع على ما موجود بمعية ضابط الامن في الامانة واتصلنا بأمين العاصمة الاستاذ سمير الشيخلي حيث وجهنا بأن نوثق كل ما موجود كيما يطلع عليه . تم توثيق وتسجيل هذا الاكتشاف المهم وتوقيع محضر رسمي بموجوداته. وجه سمير الشيخلي بأن تحال الجرة ومحتوياتها الى رئاسة الجمهورية كيما تتصرف بالكنز بالطريقة الرسمية . علمت بأن الكنز قد احيل من قبل رئاسة الجمهورية بعدئذ الى المتحف العراقي للاحتفاظ به مع النقود العراقية القديمة.
كانت الجهات الامنية قد اوقفت العامل المصري الذي عثر على الكنز ، عندما كان يحفر بجانب احد رؤوس الركائز . للتحقيق معه لئلا اخفى قطعا عن انظارنا . استطعت من اطلاق سراحه بعد اقل من اسبوع من ذلك . اذكر اني اتصلت في اليوم التالي من العثور على الكنز بالسيد اسامة النقشبندي المؤرخ والخبير الآثاري واستفسرت منه عن موقع الكنز من تاريخ بغداد . اجاب بأن ثلاث دور لسك النقود كانت في بغداد ، وربما يكون الموقع احد هذه الدور . ومهما يكن فقد ارسلنا الكنز الى رئاسة الجمهورية ، وعلمت مؤخراً انه قد ارسل الى المتحف العراقي .

وفاة زوجتي سعاد علي مظلوم
بعد سنين سعيدة طويلة من ارتباطنا سوية وتكوين العائلة ورعاية الاولاد وكفاح مستمر في اداء واجباتنا نحو تكوين انفسنا في مهنتنا ، هي في الهندسة الصحية وانا في اعمال الهندسة المدنية الاستشارية ، كان على زوجتي ان تغادر الى امريكا وبريطانيا للعلاج واستقرت في مستشفيات لندن للعلاج وعدم استطاعتي من البقاء معها خارج العراق . طلبت مني سعاد ان اعود الى عملي في بغداد لأداء واجبي ودعهما مالياً للعلاج ،حيث تطلب منها ان تبقى في مستشفى لندن حسب توصية الاطباء .
عشت مع سعاد حياة سعيدة بنينا فيها انفسنا وعائلتنا وحققنا الكثير للمجتمع ولانفسنا . ربينا اولادنا خير تربية وادخلناهم في احسن المدارس المتخصصة وتخرجوا اعضاء منتجين في المجتمع . عاصرتني سعاد طيلة حياتي وحتى هذه المرحلة متفرغين في بناء المجتمع الجديد . درسنا العلوم وجربنا الحياة وتطرقنا الى الفنون ودارسة الآثار وجمع التحف التراثية والاحجار الكريمة وبعض السجاد وسافرنا حول العالم مع اولادنا الى دول عديدة .
لم تساعدها صحتها في أن تواكبني حياتي الباقية وكم كنت ارغب في أن نكمل المسيرة سوية في بناء انفسنا ونساهم في بناء العراق.
كنت في اجتماع موسع مع كبار موظفي امانة العاصمة لبحث تقديم مقترحات تعديل قوانين وقرارات مجلس قيادة الثورة حول استخدام الاراضي الزراعية داخل حدود مدينة بغداد ، عندما نادتني سكرتيرتي للإجابة على مكالمة هاتفية من لندن . اعلمني المتكلم بان زوجتي السيدة سعاد علي مظلوم في غرفة العمليات في احد مستشفيات لندن ، وهي تخضع لعملية سحب الماء من رئتها نتيجة اصابتها بسرطان الثدي وطلب حضوري الى لندن .
قلقت كثيرا لما بلغني ، ولما لم يكن باستطاعتي عمل اي شيء ، قررت ارسال ابنتي ( غادة ) الى لندن لمرافقة زوجتي وهي بالمستشفى . الا اني لم افلح بالحصول على موافقة لارسال ابنتي طيلة ثلاثة اشهر ، اذ عرض الامر على لجنة طبية اعتقدت ان طلبي فيه تحايل عليها ، سامحهم الله .اتصلت في اليوم التالي بصديقي خالد عبد المنعم رشيد ، المستشار في رئاسة الجمهورية ، فحضر الى
مقر عملي في اليوم التالي ، فاوجزت له طلبي ، ولاحظ حيرتي بين البقاء ببغداد للقيام بواجباتي ، ومرض زوجتي ورغبتي بارسال ابنتي عوضا عني الى لندن لمرافقتها . وفي صبيحة يوم جمعة خابرني خالد عبد المنعم وابلغني بالذهاب في اليوم التالي الى وزير الاسكان ، لنجد عنده الموافقة على سفر غادة الى خارج العراق ، ولاي مدة تطلبها . وهكذا سافرت ابنتي الى لندن مما ساعدني كثيرا على استمراري بالعمل في بغداد .
بعد مرور شهرين ، اتصلت بي ابنتي من لندن قائلة : بابا .. والدتي في حالة خطرة جدا ، واقترح ان تحضر الى لندن باسرع وقت . في هذا الوقت كنت اعمل امينا للعاصمة بالوكالة لسفر الامين الى لندن بمهمة رسمية . خابرته على الفور ، وشرحت له الموضوع ، وضرورة سفري الى لندن على وجه السرعة لاكون في جوار زوجتي في ايامها الاخيرة او اعادتها الى بغداد . وافق على سفري وغادرت في اليوم الثاني فوصلت لندن ظهرا ، ومن المطار استقللت سيارة الى المستشفى . رحبت بي وتعانقنا وهي في سرير الموت ، واتفقنا على ضرورة عودتها الى بغداد ، وهذا افضل لها ولاسرتها . كانت كلماتها الاخيرة وهي متعبة جداً :» ارغب بالعودة الى بغداد لأني تعبت من العلاجات واريد ان ارتاح في بيتي والتقي العائلة والاصدقاء واتمتع باكل ( البامية ) التي يجيد تحضيرها طباخنا عبد الرزاق ..»
طرقت الممرضة باب الغرفة وقالت ان وقت الزيارة انتهى ، ودعتها وانا قلق للغاية على وضعها الصحي الصعب .خابرت طبيبها المعالج ورجوته اجراء ما يمكن اجراؤه لانقاذها ، الا انه بين لي ان وضعها حرج وسيعمل ما بوسعه . وفي الساعة الرابعة صباحا من يوم 12 تشرين الاول 1984 ، اخبرتني ابنتي غادة من المستشفى بان امها قد توفيت ، ولا مرد لأمر الله ، فإنا لله وإنا اليه راجعون . بقي ان اقول : حاولت ان اعالج زوجتي لمدة سنتين في لندن ، وكلفني ذلك الكثير من الجهد والتفكير والمال ، غير ان ارادة الله لاترد ، فاختارها الى جواره . ولكني اسأل نفسي : هل كان علي ان اترك عملي في تطوير مدينة بغداد والبقاء بالقرب من زوجتي ، ام اتركها تتعالج في مستشفيات لندن ، في الوقت نفسه الذي كانت مستشفيات العراق كلها مشغولة باستقبال جرحى الحرب الضروس بين العراق وايران ؟ هل كان من الصواب ان اتفانى في عملي واضحي بزوجتي ؟ . لا اريد ان اضع جوابا لهذا التساؤل هنا . فقد ذهبت سعاد علي مظلوم الى دار حقها وان نواريها الثرى بكل احترام في احدى مقابر لندن رحمها الله.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة