أمينة شرادي
صمت رهيب استوطن الشارع الرئيسي الذي يؤدي الى المدينة العامرة. كل الاتجاهات مظلمة تنبعث منها روائح اللحوم البشرية التي تاهت بين الجبال الوعرة المتوحشة الخالية من كل نبراس ومن كل نجوم تضيء طريق المسافر الوحيد. في لحظة، اندفعت حافلة من العدم لا ندري مصدرها ولا هويتها. توقفت برهة بين الخط الفاصل بين الليل الحالك وضوء النهار الذي بدأ ينتشر بكل هدوء لكن ببطء. عم النور كل ركن من أركان المدينة، تهللت أسارير بعض المارة الذين كانوا بين الخط الفاصل وكانوا ينتظرون بزوغ الضوء حتى يتحركون ويقضون حوائجهم. لأنه مر زمن لم تفرح أعينهم بهذا النور الذي تلاشت أضواؤه في الأفق. هرج ومرج كأنهم عادوا من سفر بعيد ينتمي الى القرون الوسطى. توقفت الحافلة، ابتلعت كل من كان في انتظارها كأنهم خائفون من عودة الظلام في أقرب وقت. تصافحوا وتحدثوا وابتسموا وضحكوا…وعادت الحياة الى مجاريها أو على ما يبدو. لم يصدقوا تلك اللحظة النادرة الصافية المنفلتة من براثين الظلام الدامس. وهم سكارى بنشوة تلك اللحظة، انزوى الصمت في ركن من أركان الحافلة في غفلة منهم. يراقبهم عن بعد وكله ثقة من عودة خفافيش الظلام. كل يحكي عن حاله وليله ونهاره. لباسهم جد متحضر. هواتف ذكية في الأيدي. حقائب يد ملونة وآخر موضة. ساعات تبرق عن بعد كأنها منار تنير طريق البواخر في أعالي البحار. مفاتيح سيارات تتحرك بين اليدين وتحدث ضجيج التوفق المالي والامتياز الاجتماعي. الحافلة تسير والكل يتباهى بحريته وحضارته وانتمائه. تتوقف الحافلة، الشمس في كبد السماء، تصعد فتاة بابتسامة رقيقة ولباس جميل ومتحضر ينتمي لسكان الحافلة. تبحث عن مكان وتستريح وتنام بين أحضانهم. كيف لا وهي ابنة الأرض الطيبة ذات الحضارة العريقة. تسرع الحافلة خوفا من هبوط الظلام وخروج الوحوش البرية التي تتغذى على اللحوم البشرية تحت جنح الظلام. عاد الصمت من جديد، نظرات غير طبيعية بين سكان الحافلة. ماذا حدث؟ عيون تغير لونها الى اللون الأحمر الفاقع، نبتت لهم أنياب فجأة تتأهب للانقضاض. علت أصواتهم، يتهامسون، يتحرشون والفتاة نائمة كالرضيع بين أحضان أمه. لأنها قبل مجيئ الأمر بحظر التجول بالليل خوفا من هجوم بربري وتحول حياة المدينة الى انذار في انذار، كانت تعيش بسلام بين أحضان أسرتها وحكايات جيرانها عن حضارة أجدادها وجداتها، حضارة حكمت فيها المرأة، كانت شاعرة، كانت محاربة، كانت مقاومة ..يعني هي سليلة الفاتحات والشاعرات والعالمات…كل هذا أعطاها قوة وافتخارا بالنفس لانتمائها الى بلد متحضرو جميل والخروج بكل حرية. لكن، في يوم من الأيام، نام الجميع وطال نومهم حتى تفشى فيروس التوحش بين خلايا عقولهم وأرواحهم. ولوث ماضيهم الصافي وجعلهم يظنون بأنهم ينتمون الى صنف مصاصي الدماء الذين يرفضون الاختلاف. الحافلة تسرع والتحول الداخلي مستمر، بذرة التوحش نبتت بين ضلوعهم ونامت تنتظر اليوم الذي تعلن فيه الحرب على كل الأنوار التي تتلألأ في المدينة. نامت الفتاة، وهي لا تدرك عمق التحول الذي غزا عقولهم وأرواحهم وأجسادهم واستحالوا أجسادا ميتة تسكنها أرواح شريرة تنام بالنهار وتستيقظ بالليل بمباركة مجتمعية.
اقتربوا أكثر من رائحتها البريئة وابتسامتها الطفولية. رفضوا الابتسامة ورفضوا الفرح ورفضوا ملامح وجهها ورفضوا لباسها ..كانت منبوذة وحوكمت ونفذ فيها حكم الإعدام وهي نائمة. تخطت الحافلة كل المحطات، صراخ وعويل داخل الحافلة. احتفال على طريقة الذئاب البرية…وكان الصمت في أبهى حلله في تلك اللحظة. لقد انتصر عليهم وهو القائم بالشرع والقانون. لقد انتصر على بصيص النور الذي كان كالنبراس يحمل بين يديه حبا وابتسامة وضحكا ولعبا. مرق من أمام الفتاة وهي تمزق بين نور ثاقب وليل دامس، حكايات الشاعرات والعالمات والمقاومات والحاكمات…لم تعد تتذكر شيئا عنهن. هل فعلا هن موجودات؟ هل ركبن حافلة زمانهن؟ حاولت الاستنجاد بهن، مدت يدها اليهن. اختفين وراء السحب والغيوم. واستوطن الحافلة ظلام حالك كظلام القبور وصمت رهيب ثقيل على الروح. وظلت ساعة اليد تبرق. والحقيبة آخر موضة بأبهى الألوان والهاتف الذكي يرن من حين الى حين اخر. ومفاتيح السيارة تحدث ضجيج التفوق الاجتماعي.
توقفت الحافلة، اختفى الخط الفاصل بين النور والظلام. دفعت كل سكان الحافلة الى الخارج. يمتطون دروب الظلام بكل فخر وجهالة. وبقيت الفتاة سليلة الشاعرات والعالمات والحاكمات. تلملم جراحها وتكفكف دموعها وتبحث عن بصيص ضوء ينير اليها سبيلها ويعيدها الى أهلها الذين حكوا لها عن حضارة مرت من هنا. تساءلت الفتاة بصوت خافت: هل فعلا أنا ابنة أرض العلم والمعرفة؟ أم أنها حكايات جميلة وحدت من أجل أن ينام الصغار؟ رفعت الفتاة الشكاية الى حاكم المدينة العامرة قالوا لها للمدينة حاكم. تغنوا بعدله وحبه للخير وكرهه للظلم والظلام. انتظرت الرد. مرت ليالٍ طوال. جاء شتاء تلو شتاء. وصيف تلو صيف…والفتاة تنتظر الجواب.
بالماء والصابون، غسلوا آثار الأقدام البربرية. ومسحوا عرق الأيادي المرتجفة. وفتحوا النوافذ وانطلق في الفضاء صراخ وعويل الفتاة الذي كان مسجونا بين الكراسي والنوافذ. وخلقوا حافلة جديدة تنتظر ليلاً آخر.