حركةُ نقدِ الشعرِ في الموصل منطلقاتُها واتجاهاتُها

(منذ نشأتِها حتى العام 1992م)
القسم الثامن
د. عبد الرضا علي

ثانياً ـ الاتجاهُ التكامليُّ :
وهو اتجاهٌ نقديٌّ يفيدُ من جميعِ المناهجِ النقديَّةِ ، سواءٌ أكانت وصفيَّةً تاريخيَّة، أم تحليليَّةً تطبيقيَّةً، أم انطباعيَّةً تأثُّريَّةً، أم نفسيَّةً، أم غيرها. وهذا الاتجاهُ لا يتردَّدُ أحياناً في إدخالِ بعضِ مصطلحاتِ الاتجاهاتِ الجديدةِ ضمن منهجهِ الشاملِ.
إنَّ الكتابةَ في النقدِ التكامليِّ تتطلّبُ ثقافةً موسوعيَّة، وعمقاً في التفكيرِ، ومقياساً مجرَّباً في المعياريَّةِ، إلى جانبِ اضطلاعٍ دائمٍ في الهمِّ النقديِّ تنظيراً وتطبيقاً؛ وخيرُ من مثَّلَ هذا الاتجاهَ الشاعرُ الناقدُ يوسف الصائغ في كتابهِ (( الشعرُ الحرُّ في العراق منذ نشأتهِ حتى سنة 1958م دراسة نقديَّة))(0) ، وهو كتابٌ نقديٌّ كبير في نتائجهِ، إذ تناولَ بالدرسِ حركةَ الشعر الحرِّ في العراقِ تناولاً تكامُليَّاً مستفيداً من المنهجِ التاريخيِّ، والتحليليّ، والتأثُريِّ، والنفسيِّ، وغيرها، من خللِ الفكرِ والسياسةِ، والخصائصِ الاجتماعيَّةِِ، وخصائصِ الوزنِ، واللغة، والصورة، والبناء.
وهو في كلِّ تلك المحاورِ يصدرُ عن أُسلوبٍ رصينٍ ، ومقدِّماتٍ سليمة أوصلتهُ إلى نتائجَ صحيحةٍ ستبقى مؤشِّراً على أنَّ كلَّ فصلٍ في هذا الكتابِ كانَ يمكنُ أن يكونَ رسالةَ ماجستير قديرة.
*******

ثالثاً ـ الاتجاهُ الوصفيُّ.. التاريخي :
وهو اتجاهٌ يُعنى بنقدِ النصِّ الشعريِّ نقداً خارجيَّاً، أي يقومُ على توصيفِهِ، وتوثيقهِ، وتوضيحهِ أكثرَ ممَّا يقومُ على تحليلِهِ، وتفسيرهِ، وتقويمهِ، ودراستِهِ من الداخلِ، لذلك يهتمُّ هذا الاتجاه بالمنهجِ التاريخي وسيلةً لتحقيق ما يصبو إليه من نتائج، وغالباً ما تكونُ نتائجهُ خطوطاً عامَّة تحتاجُ إلى ناقدٍ آخرَ يواصلُ بها الاكتشاف، أي يتخذَ من تلك النتائجِ بداياتٍ لعملٍ ينطلقُ مكتشفاً أبعاداً جديدةً، ونتائج غير معلنةٍ، أو نتائج تكميليَّة، أو لتأصيلِ ما لم يستطع تاصيلَهُ الناقدُ الموصِّفُ المؤرّخ، أو لتعميقِ زاويةِ النظرِ النقديَّة.
وليسَ هذا الاتجاهُ وقفاً على أسماءٍ بعينها، إنَّما يُشاركُ فيه معظمُ الباحثينَ الشبابِ الذين أنجزوا، (وينجزونَ) بحوثهم للدراساتِ العليا في نقدِ الشعرِ، أو الظواهرِ الشعريَّةِ. ويبدو أنَّ هذا الاتجاهَ لابدَّ منه في المرحلةِ الأولى، أي أنَّ معظمَ الذين أصبحَ لمنطلقاتِهم النقديَّةِ شأنٌ في الحركةِ الأدبيَّةِِ، أو كان لاجتهادهم أثرٌ في الواقعِ النقديِّ الراهن كانوا قد بدأوا خطواتِهم الأولى تحتَ ظلالِ هذا المنهجِ، أو كانوا منشدِّينَ إليهِ راغبينَ فيهِ بحكمِ حداثةِ عهدِهم بالممارسةِ النقديَّةِ، وقلَّةِ تجاربِهم في ميدانِ التطبيقِ.
إنَّ الدراساتِ التي يمكنُ أنْ تؤشَّرَ كثيرةٌ في هذا الاتجاهِ، وهي دراساتٌ جادَّةٌ، لكنَّ ضيقَ المجالِ (هنا) يلزمنا أنْ نشيرَ إلى بعضها تمثيلاً ليس غير، كما في :
1. دراسةِ بتول حمدي البستاني لـ((ظاهرة الشكوى في شعر هذيل))(1).
2. دراسةِ بشرى حمدي البستاني لـ (( شعر البعثِ من التأسيسِ 1947 إلى النكسةِ 1967م))(2).
3. دراسةِ سعود أحمد يونس لـ(( الشعر الغنائي عند صلاح عبد الصبور))(3).
4. دراسة صالح حسين الجميلي الموسومة بـ((شعر حافظ جميل دراسة نقديَّة))(4) .
5. دراسة وفاء رفعت نور الدين الموسومة بـ((المرجعيَّة التراثيَّة لقصيدةِ الحربِ في العراق))(5) .
6. ما كتبَهُ الدكتور غانم سعيد من مقالات في بعضِ الدوريَّات عن بعضِ المجموعاتِ الشعريَّةِ لشعراء من الموصلِ يوضِّحُ هذا الاتجاه(6) . ولسنا نغالي إنْ قلنا: إنَّ هذا الاتجاهَ يفرضُ نفسَهُ على غانمِ سعيد فرضاً حتى في دراساتهِ الجامعيَّةِ الجادَّةِ التي ينجزُها بحكمِ عملهِ الجامعيِّ، لأنَّ التوصيفَ الخارجيَّ، والابتعادَ عن استبطانِ النصوصِ ، والالتزامَ بالوثيقةِ والحدثِ والتاريخ آليَّاتٌ يتكئ عليها في معظمِ دراساتهِ، إن لم تكن كلَّها(7) .
*******

رابعاً ـ الاتجاهُ الانطباعيُّ:
وهو منهجٌ في نقدِ الشعرِ يصدرُ عن نفسٍ تتأثَّرُ بالنصِّ إيجاباً، أو سلباً، ويكونُ لتأثُّرِها هذا نتائجُ سلبيّةٌ قد لا تكونُ موضوعيَّةً، أو دقيقةً.
وهذا معناهُ أنَّ الناقدَ يوظِّفُ كلَّ ما يمتلكُهُ من خزينٍ ثقافيٍّ، أو أدواتٍ نقديَّةً للدفاعِ عمَّا تركَهُ ذلكَ النصُّ فيه من انطباعٍ، لهذا سُمِّيَ بالنقدِ التأثُّريِّ أو الانطباعيِّ، لأنَّهُ يؤسَّسُ على الانطباعِ أكثرَ ممَّا يؤسَّسُ على النظرِ العلميِّ، ومن شأنِ الانطباعِ أنْ يتغيَّرَ(كما نزعم) بمرورِ الأيَّامِ والممارسةِ الجادَّة.
ولعلَّ فيما تنشُرُهُ الصحفُ والمجلاتُ من عروضٍ نقديَّةٍ لبعضِ النتاجاتِ الجديدةِ، أو فيما ينشُرُهُ بعضُ النقَّادِ من إطراءاتٍ لنتاجاتِ أساتذتِهم، أو أصدقائهم، أو مجايليهم خيرُ ما يمثِّلُ هذا الاتجاه.
وليسَ هذا عيباً، فكلُّ النقَّادِ لهم نقداتٌ انطباعيَّةٌ، حتى أولئكَ الذينَ نظنُّ انَّهم لا يجاملونَ أحداً ـ لأنَّ الإطراءَ صورةٌ من صور الانحيازِ سلفاً ـ على أنَّنا حين نُشيرُ إلى هذا الاتجاهِ لا نعفي نقَّادَ الاتجاهاتِ الأخرى من الوقوعِ في دائرتِهِ بين حينٍ وحين آخرَ، كما أنَّنا لسنا هنا في معرِضِ الانتقاصِ من ممارستِهِ، إنَّما هو تأكيد لاتجاهٍ نقديٍّ سادَ ( وما زالَ يسودُ) في الفضاءِ الأدبيِّ.
ولعلَّ صورةَ هذا الانطباعِ قد تجسَّدتْ في بعضِ المقالاتِ النقديَّةِ التي كانتْ تُنشرُ في مجلَّةِ (( الجامعة)) قبل توقُّفِها عن الصدورِ، إلى جانبِ بعضها الآخرِ الذي يُنشرُ بين حينٍ وحين آخرَ في جريدةِ (( الحدباء)) وما كان في حكمِها من الدوريَّات الأخرى التي تصدرُ خارجَ المحافظةِ .
*******

خامساً ـ الاتجاهُ البنيويُّ :
وهو اتجاهٌ يحاولُ أن يفيدَ من كتاباتِ رائدِ المدرسة الشكليَّةِ الروسيةِ (( رومان ياكوبسن 1896 ـ 1982م)) و كتاباتِ رائدها الفرنسي (( كلود ليفي ستراوس 1908 ـ ؟)) وغيرهما من الأوروبيينَ، وما كانَ من كتاباتٍ عربيَّةٍ اضطلعَ بها بعضُ الأخوةِ المغاربة إلى الحدِّ الذي عدُّوا فيه الاتجاهاتِ الأُخرى اتجاهاتٍ قديمةً لم تعُدْ تفي بالغرضِ النقديِّ، متناسينَ أنَّهم يشكِّلونَ صَرعةً، أو ضرباً، أو حالةً بدأتْ تنحسرُ يوماً بعدَ يوم آخرَ، لكونِ ما كتبوهُ لم يكن نقداً بقدرِ ما كانَ تهويماً لغويَّاً يعتمدُ على التمَحُّلِ، والفرضِ القسريِّ، والتضبيبِ، والغموضِ المفتعلِ في تفتيتِ الفقراتِ، ويمثِّلُ هذا الاتجاهَ في الموصلِ الدكتورُ محمَّد صابر عبيد بدراساتهِ التي ينشُرُها في الدوريَّاتِ ، إلى جانبِ رسالتهِ للدكتوراه الموسومة بـ ((موسيقى القصيدة العربيَّة المعاصرة الحرَّة ـ دراسة في الظواهرِ الفنيَّةِ لجيلِ الروَّادِ ومن بعد الروَّاد.))
ويبدو أنَّهُ اختارَ دراسةَ الموسيقى تقليداً، أو محاكاةً للبنيويينَ وأنصارِهم، لأنَّهم ((درسوا العروضَ دراسةً مستفيضةً أكثرَ من أيَّةِ جماعةٍ، لاقتناعِهم أنَّ هناكَ نظاماً (( SYSTEM )) يحكمُ الأصوات الشعريَّةَ، كما تتحكّمُ أنظمةٌ معيَّنةٌ في النشاطاتِ الإنسانيَّةِ الأخرى، فكما أنَّ الرياضيَّات والعلوم واللغة خاضعةٌ لنظمٍ ثابتةٍ، فالأدبُ أيضاً خاضعٌ لنظمٍ معيَّنةٍ ، والعروضُ يؤدِّي تلك المهمَّةَ بدراسة موسيقى الشعرِ))(8) .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة