استفتاء البارزاني.. أوهام الانتفاخ وحقائق الأرض !

العزف على أوتار متهرئة..
عبد الزهرة محمد الهنداوي

ربما لم يكن يدر بخلد مسعود البارزاني انه سيواجه كل هذه الصعاب والتحديات التي وصلت إلى مرحلة القضاء عليه سياسيا ، وعلى الرغم من أنه أشار غير مرة إلى أنه لن يتراجع عن المضي باتجاه اعلان الانفصال ، معتمدا في اصراره هذا على بعض المواقف الواهنة التي كان اصحابها يشيرون له تلميحا او تصريحا ان لا أحد يجرؤ على الوقوف بوجهه مادام هو يحظى بدعم تل ابيب ومن ورائها واشنطن وعواصم اخرى كانت تخفي مواقفها الحقيقية ، لذلك هو يقول إن النتائج المتوقعة عن اعلان الانفصال لن تكون بأي حال من الاحوال أسوأ من الاستمرار تحت سقف العراق الموحد بانتظار مستقبل وصفه بالمظلم !! .. ويقول المؤيدون لخطوات الانفصال وهم يتحدون بغداد والعالم ، إن الحكومة في بغداد مهما كانت قوتها فهي لن تكون اقوى من الحكومات السابقة ! ، وكأنهم يشيرون هنا إلى نظام صدام الذي اذاقهم مر الهوان وعلى الرغم من كل ما سببه لهم النظام من آلام لا يمكن نسيانها ما بقيت السماوات والأرض ، إلا اننا وجدنا البارزاني في عام 1996 يأتي إلى بغداد ويظهر في لقطات وهو يحتضن صدام ليطلب منه ضرب السليمانية بعد خلاف نشب بينه وبين غريمه التاريخي زعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الراحل جلال الطالباني ، وكلنا يتذكر ما حدث في تلك السنة من اجتياح للسليمانية من قبل الجيش العراقي ما كان له ان يحدث لولا تآمر البارزاني مع صدام ضد ابناء جلدته ..
ومضى البارزاني في فرض هيمنته ونفوذه في الاقليم وخصوصا في مرحلة ما بعد عام 2003 بعد ان تمكن من ابعاد منافسيه إلى بغداد ليخلو له الجو هناك فيبدأ بالاستحواذ على الثروات في سلوكيات لا تختلف أبدا عن سلوكيات صدام يوم سلم مقاليد البلد بيد أفراد أسرته ليبقى الشعب العراقي معدما يعاني من شظف العيش .. ومما ساعد مسعود على المضي في سياساته التي اراد من خلالها تأسيس حكم عائلي ديكتاتوري يبقى خالدا ، هو سياسة التراخي التي كانت بغداد تمارسها مع الاقليم ، متجاوزة في ذلك على الكثير من المواد الدستورية التي كانت تؤكد ضرورة بسط السلطات الاتحادية على جميع أرض الوطن ، وإن اقليم كردستان ، وإن جرى الاعتراف به كأمر واقع ، إلا أنه في نهاية المطاف هو لا يختلف عن أي محافظة أخرى وأن رئيسه ليس سوى محافظ بإمكان المركز إقالته وتنصيب بديل عنه ، ولكن امرا من هذا لم يحدث ، اذ تحول الاقليم إلى دولة داخل دولة ، وعلى مدى اربعة عشر عاما لم يكن بإمكان بغداد ان تقترب من اربيل ، فيما كانت الثانية تصول وتجول في بغداد ، ففضلا عن حصولهم على نسبة 17% من الموازنة وهي نسبة اكثر مما يستحقونه بالتأكيد ، ولكنها جاءت اثر صفقة سياسية في حينها وارتبطت بنص ممجوج كانت الموازنة تتضمنه في كل عام وهذا النص يشير إلى منح الاقليم هذه النسبة لحين قيام الحكومة بإجراء تعداد سكاني للوقوف على النسبة الحقيقية لسكان الاقليم ، وكان الجميع متأكدا ان التعداد لن يجري مادام هناك ملف اسمه المناطق المختلف عليها أو المتنازع عليها ، وكلنا يتذكر حيثيات مشروع التعداد الذي كان مقررا اجراؤه عام 2010 بعد ان انفقت عليه الحكومة زهاء 200 مليار دينار عراقي ، إلا انه لم ينفذ بسبب ملف المناطق المختلف عليها مـع الاقليـم.
كما أن العلاقة بين بغداد واربيل لم تتوقف عند الموازنة بل كان للإقليم حصة في كل شيء ، فأي قرض او منحة او مساعدة يحصل عليها العراق فلابد ان يكون للإقليم حصة منها .. اما المشاركة في القرار من خلال الحكومة ومجلس النواب والهيئات المستقلة فكانت ذات اثر كبير في المشهد العراقي بجميع مفاصله ، وهذا الامر ساعد على تمرير الكثير من المواقف والقرارات وحجب اخرى ، وهنا نشير إلى قانون النفط والغاز لعام 2007 ، وهو من القوانين المهمة لو جرى تمريره في حينها لحسم الكثير من الاشكالات فيما يتعلق بإدارة الثروة النفطية ، وعدم اقرار هذا القانون يعني بقاء البارزاني مهيمنا على الحقول النفطية العملاقة في محافظة كركوك ، لاسيما بعد حالة التمدد المرعبة التي قام بها بعد عام 2014 مستغلا انشغال الحكومة في مواجهة ارهاب داعش ، ليبسط نفوذه على كركوك ، مستفيدا من وضع المحافظة التي لم تشهد تغيير حكومتها منذ عام 2005 ليبقى المحافظ نفسه طوال هذه المدة متواطئا مع البارزاني في ممارسة سياسة التكريد للمحافظة ضاربا بعرض الجدار مشاعر بقية المكونات لاسيما المكونين العربي والتركماني اللذين يشكلان الاكثرية في كركوك ،.. ورويدا رويدا بدأ البارزاني يعلن عن توجهاته من خلال سياساته الاستفزازية ، مستغلا مرة اخرى المواقف الدولية التي تعاملت بايجابية مع الكرد على اعتبار انهم تعرضوا للتنكيل والابادة في فترة النظام السابق ، ومما عزز هذه المواقف وجود وزير كردي للخارجية العراقية لمدة طويلة سعى خلالها إلى تأسيس دبلوماسية كردية بعيدا عن بغداد ، لذلك كنا نجد في اغلب العواصم وجود ممثليات دبلوماسية كردية داخل السفارة العراقية ، وأكثر من هذا ان أي مسؤول دولي كان يزور بغداد لابد له ان يذهب إلى اربيل وكأنها عاصمة دولة اخرى ، لا ، بل هناك وزراء خارجية ذهبوا إلى الإقليم من دون التنسيق مع بغداد ، ومنهم وزير الخارجية التركي الذي تقف بلاده اليوم بقوة أمام توجهات البارزاني الرامية إلى الانفصال !!.
كل تلك المواقف والسياسات على المستويين المحلي والدولي اسهمت في خلق انتفاخ لدى البارزاني اشعره انه يمتلك من القوة ما يجعله قادرا على تحدي بغداد وإعلان دولته المزعومة ، ومن المؤكد انه كان يدرك ان لا دولة كردية من دون مصادر اقتصادية ، وهذه المصادر لا تتوافر إلا في كركوك ، من هنا كان يرسم مخططه في الاستيلاء على هذه المحافظة الغنية ، واصفا اياها بالقدس وانه رسم حدودها بالدم .. الخ .. وراح البارزاني يواصل سياساته الاستفزازية وصولا إلى اجراء الاستفتاء الذي شمل به كركوك والمناطق المختلف عليها والتي استولى عليها بعد عام 2014 .. حاولت الحكومة والمجتمع الدولي ثنيه عن قراره ولكنه اصر بنحو غريب ومثير وكأنه يرسم نهايته بيده مضيعا الحلم الكردي خاسرا جميع الامتيازات التي كان يتمتع بها سواء تلك التي يحصل عليها من المركز او من خلال هيمنته على ابار النفط والمنافذ الحدودية والمطارات ، وغيرها ، وإذ لم ينته عما سار فيه كان لابد من ايقافه ، فجاءت اجراءات الحكومة ببسط سلطة الدولة والقانون واستعادة الهيبة وذلك بتأييد واسع من قبل الكثير من الاحزاب والفعاليات السياسية الكردية التي وجدت في سياسات البارزاني انتحارا وتدميرا للاستقرار في الإقليم ، وبين ليلة وضحاها وجد البارزاني نفسه معزولا والكل يطالب بمحاكمته حتى الذين كانوا يؤيدونه سرا او جهرا !.. ولم تنفعه كل تلك الشعارات القومية وادعاء التهميش وظلم بغداد وطائفيتها !! ، فقد ادرك الجميع ونتيجة لسياسات التعرية القانونية التي اتبعتها الحكومة ، ان هدف البارزاني كان للمحافظة على كرسيه والتنعم بالثروات ، في وقت كان فيه الشعب الكردي يعاني من شظف العيش بسبب سياساته غير المسؤولة .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة