ليل الطفولة

محمد عواد

في إحدى ليالي الشتاء الباردة، بدت أزقة المحلة مهجورة ومقفرة، بعد أن هجع الناس في بيوتهم، ولا يقطع صمت هذه الوحشة، سوى أصوات من هنا وهناك للكلاب أو القطط أو طفل يأبى أن ينام، كان رفيقي عماد قد أعد كل شيء للموعد المقدس ، هكذا كان يسميه، وهو بانتظاري وقنينة (العرق)، ملفوفة بورق الصحف وكأنها كنز نبش من تحت الأرض، كان عماد رفيق العمر وتشهد على ذلك دروب المحلة وساحتها التي قضمت ما يزيد عن ثلاثين عاما، كنا نجتمع كل خميس بعد الساعة الثامنة ليلا على أطراف الساحة الكبيرة، وبالقرب من الشارع العام، بعد أن اعددت الكاسين ووضعت فيهما قطعتين ثلج ، بدأ عماد يتكلم وهو يتلاعب بالكأس، بعد ارتشف نصفه،عن مشكلة المحلة المزمنة، اين يقيم الأهالي مسجدهم، في ساحة كرة القدم أم مكان بناية الحزب التي هجرت بعد السقوط، ونتيجة هذا الجدل كانت المشكلة تكبر يوما بعد يوم، نظرت إلى عماد بشيء من البلاهة، (مالك ومال الجامع…ولعلمك الحل عندي وبسيط )، فرد عماد بعد أن اجهز على ما تبقى من الكأس. (اتحفنا يا عالم) فقلت (أن لا يبنوا الجامع ويريحوا رؤوسهم ورؤوسنا). فضحك عماد بصوت عالي فتابعته بنفس الصوت.
في غمرة انشراحنا لفت انتباهي توقف سيارة وسط الشارع وتم إنزال شيء ما، كنا معتادتين على مثل هذه الأمور بين الحين والآخر، فتارة يرمون قمامة أو جثة ممزقة بالرصاص ، لكن الشيء الذي القوه كان يتحرك يمينا وشمالا جاعلا مكان السيارة التي انطلقت محورا له، فنظرت لعماد بعد أن وضعت الكأس من يدي .أترى أم أن العرق أخذ مأخذه منا مثل باقي الأمور وانا الذي لم اشرب إلا كاسا واحدة .فأجابني ما نراه حقيقة، هيا لنرى ما هو (رحمه على والديك خاف يطلع كلب واحنه ما ناقصين ، فأجابني كوم وخليك سبع).
عند اقترابنا لم نر سوى طفل يبدو انه في الخامسة من عمره، وعينيه الزرقاوتين تتراقص يمينا وشمالا، وجسمه ينتفض وقد تفصد جبينه عرقا وفي حالة ذعر، كأن رجلا يريدون تنفيذ حكم الاعدام فيه وهو يردد (خالو سالم…خالو سالم)، حاولنا أن نمسك به فلم نستطيع، فحاصرناه وانقض عليه عماد وهو يصرخ به (انعل أبوك وأبو خالك سالم)، كان يئن مرة ويبكي مرات، بعدها فهمت انه يريد ماء، سحبناه من الشارع وفي طريقنا إلى بيت عماد قلت (ماذا نفعل بهذه البلوة)، فأجابني عماد (لا أدري ولكن حاليا سابقيه بالبيت حتى نفكر ماذا نفعل)، ـــ ماذا تقول إلى الحجية ) ـــ (اقول لها طفل تائه وسط الليل )، هكذا قالها وقد بدأ يبطئ بمشيته.
بقيت خارج البيت ودخل هو بعدها بقليل سمعت ضجة ميزت منها صوت (الحجية)، وهي تولول وتقول الله يرحمنا، بعدها حزمت كل شيء من القنينة إلى الفاكهة حتى الكؤوس وضعتها في كيس وكأني امسح بصماتي من الجريمة، وعندما فرغت صحت بصوتي الجهوري عماد اتصل ب (عباس)في مركز الشرطة وهو يقول لنا ماذا نفعل، خرج عماد بعد قليل قائلا: سيأتي عباس ومعه مفرزة ليتبنوا ماذا حدث.
بقينا جالسين ونحن نشعل سيكارة بأخرى وعماد ينظر الي فانفجرت ضاحكا: والله اذا سولفناها للناس صباحا لا أحد يصدق ويقولون مخمورين وما عليهم عتب، (مئة مرة قلت لك ان تحول الجلسة إلى يوم الجمعة فلم توافق وحجتك انه يوم مبارك، تفضل طفل مجهول وسهرة افسدت ونحن بانتظار الشرطة )، لم أكمل الكلمة الأخيرة حتى انتبهنا إلى سيارة المفرزة بالقرب منا، ترجل (عباس)من السيارة مع أمر المفرزة وقد أخذنا بالأحضان كعادته، ــ ماذا حدث..سأل أمر المفرزة ..فسردت كل شئ حتى نوعية (العرق)الذي شربناه.
ــ أين الطفل. .فأشار له عماد انه مع العائلة، ولكنه مرعوب ، وبملابسكم الرسمية سيزداد خوفه، ـــ لا عليكم انا بلباس مدني وساراه وحدي فقط اعطوني طريقا، دخل عباس وانا بقيت مع الدورية أقوم بتوزيع السجائر ونتكلم عن الأمر بشئ من السخرية، عندها خرج عباس ومعه عماد متوجها إلى أمر الدورية، وهو حائر كأنه يعرفه .فقال….سيدي .إنه يشبه المرأة التي وجدناها قبل ساعة، فأجابه ما علاقة هذا بتلك، فقال قد تكون أمه ياسيدي، واقترح أن نأخذه إلى مركز الشرطة، ليراها قبل أن نذهب بالجثة إلى الطب العدلي، عندها قاطعته: عباس الطفل لم يستفق بعد من الصدمة وتريد أن تأخذه ليرى جثة امرأة قد نكون امه؟!
ـــ كل ما تقوله صحيح ولكن لنتأكد قبل كل شيء.
أخرج عماد الطفل ملفوفا ببطانية وقد بدأ النوم يغلب عليه، صاح عماد:اذهبوا وسنلحق بكم بسيارتي. فهز عباس رأسه بالموافقة.
دخلنا إلى مركز الشرطة من الباب الخلفي المضاءة من كل جوانبه، رأينا عباس يقف أمام الجثة الملفوفة ببطانية، وقد جفت عليها الدماء حديثا، فأشار إلينا أن نقترب من الجثة وقد رفع عباس البطانية عن وجهها ، فإذا بها امرأة زرقاء العينين وقد جحضت عيناها، فمها مفتوح.، وجهها اصفر كالشمع، فقال عباس: اترون أن الطفل يشبهها كثيرا، نظرت إلى عماد وقد زم شفتيه على السيكارة بقوة.
اذهب واحضر الطفل من السيارة
ـــ كيف أفعل ذلك؟! سيموت الطفل
ــــ بلا تنظير أحضر الطفل رجاءً.
فجاء به يهمس بإذنه فأخذ يفيق شيئا فشيئا ..أخذه عباس من يده، وقرّبه من جثة المرأة، مسح الطفل عينيه من النعاس عندها بدأ يصرخ (خالو سالم…أمي. . أمي).
عندها ساد صمت رهيب لا يقطعه سوى صراخ الطفل.
التفت إلى الخلف وانا محمّر العينين فإذا بعماد وقد وضع رأسه بين رجليه وهو يبكي بصوت إنساني بكاء الطفل.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة