فابريس بالونش
في تموز/يوليو 2017، استحوذت «هيئة تحرير الشام» [«الهيئة»] على كامل الحدود السورية-التركية في محافظة إدلب وعلى العاصمة السورية لإقليم إدلب على حساب حليفها السابق «أحرار الشام». وجاءت هذه الخطوة بعد عدة أشهر على استسلام المتمردين لقوات النظام في حلب والقوات المتحالفة معها في كانون الأول/ديسمبر 2016، حين التزمت عندئذ «هيئة تحرير الشام» بفرض هيمنتها على التمرد السوري بأكمله. ومن خلال قيامها بذلك، سعت إلى إرغام حلفائها السابقين على الخضوع لاستراتيجيتها الجهادية، في حين اتخذت من منطقة إدلب مقراً لها.
تفوّق «هيئة تحرير الشام»
في 28 كانون الثاني/يناير 2017، تم تشكيل «هيئة تحرير الشام» من خلال اندماج العديد من فصائل المتمردين المرتبطة بـ «جبهة فتح الشام» («جبهة النصرة» سابقاً). وشملت هذه الفصائل «حركة نور الدين الزنكي»، و«جبهة أنصار الدين»، و«لواء الحق»، و«جيش السنة». ومع ذلك، فمن خلال سعيها إلى إحكام قبضتها على التمرد، فشلت «هيئة تحرير الشام» في ضمّ حليفها الرئيسي السابق، «أحرار الشام». ونتيجةً لذلك، انشقت العديد من كتائب «أحرار الشام» والتحقت بـ «هيئة تحرير الشام»، في حين انضم آخرون مثل «الجيش السوري الحر»، و«صقور الشام»، و«الجبهة الشامية» إلى «أحرار الشام» من أجل الاحتماء من «هيئة تحرير الشام». وعلى الرغم من استيعاب «أحرار الشام» لعناصرها الجديدة، لم تحصّن «الحركة» نفسها عسكرياً وبقي تماسكها مزعزعاً – مما جعل من غير المرجح أن تتمكن «الحركة» من منع المزيد من الانشقاقات لصالح «هيئة تحرير الشام».
ومنذ عام 2014، اسهمت التجسيدات السورية المختلفة لـ تنظيم «القاعدة» في إقصاء كتائب «الجيش السوري الحر» بنحو منهجي في شمال غرب سوريا إما من خلال قتل عناصرها أو ضمها إليها. واليوم، تراجع عديد «الجيش السوري الحر» في منطقة إدلب إلى بضعة آلاف مقاتل، في غربلة ساهمت في حدوثها حركة «أحرار الشام» – وهو أمر يجدر ذكره نظراً لأنه حصل نتيجة الانقسام اللاحق بين «أحرار الشام» و«هيئة تحرير الشام». وفي شتاء 2017، هاجم فرع تنظيم «القاعدة» في سوريا حتى «جند الأقصى»، فصيل متطرف قاتلت «هيئة تحرير الشام» و «جبهة النصرة» قبلها إلى جانبه. وهكذا، اضطرت الجماعة الجهادية الصغيرة إلى التفكك، حيث انضم بعض أعضائها إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» في حين التحق آخرون بـ «الحزب الإسلامي التركستاني» (الذي كان يُعرف سابقاً باسم «حركة تركستان الشرقية الإسلامية»)، أحد أهم حلفاء «هيئة تحرير الشام». ويضمّ «الحزب الإسلامي التركستاني» الآلاف من مقاتلي الأويغور الذين قدموا أساساً من شينجيانغ، الصين (المعروفة أيضاً باسم شرق تركستان)، والذين يقاتلون في سوريا ويعيشون مع أسرهم بين جسر الشغور وأريحا.
واليوم، تشكّل «هيئة تحرير الشام» أكبر جماعة متمردة في سوريا ومحافظة إدلب على حد سواء. ومن بين مقاتلي «الهيئة» الذين يناهز عددهم 30 ألف عنصر والمنتشرين في جميع أنحاء البلاد، يتمركز نحو الثلثين في منطقة إدلب. وغالباً ما تستقطب «هيئة تحرير الشام» المزيد من المجندين عقب الانتصارات العسكرية. وعلى وجه الخصوص، في تموز/يوليو 2017، شملت الكتائب الجديدة لـ «أحرار الشام» التي انضمت [إلى «الهيئة»] «أسود الإسلام»، ومقرهم جنوب شرق محافظة إدلب؛ و«أسود المعرة»، ومركزهم في معرة النعمان؛ وجماعة خاضعة لسلطة أمير الدانة، وهي بلدة صغيرة شمال إدلب. كما تعززت صفوف «هيئة تحرير الشام» في إدلب من خلال مقاتلين خارجين من جيوب كانت خاضعة سابقاً لسيطرة المتمردين وأصبحت حالياً تحت سيطرة الجيش السوري، على غرار الزبداني وحي الوعر في حمص والقابون وداريا وغيرها. فضلاً عن ذلك، قد يصل نحو 1500 مقاتل من «هيئة تحرير الشام» وعائلاتهم قريباً من قرية عرسال اللبنانية، حيث نفذ «حزب الله» والجيش اللبناني حملة ضد الجهاديين السنّة. وحتى الآن، يمكن تسجيل حدوث عملية انشقاق كبيرة واحدة في صفوف «الهيئة»: تلك التي نفذتها «حركة نور الدين الزنكي» التي انفصلت عن «هيئة تحرير الشام» لتصبح قوة مستقلة في أواخر تموز/يوليو 2017.
نظم تحكم «هيئة تحرير الشام»
خلال تقييم نقاط قوة «هيئة تحرير الشام»، قد يكون وجودها غير المستقر في المنطقة مضللاً. وبالفعل، تعتمد «الهيئة» على قدرة شبكتها أكثر من اعتمادها على تكديس الأراضي. فخلال تموز/يوليو الماضي، قامت بطرد جماعات منافسة من مدينة إدلب ومن بلدات أصغر مثل معرة النعمان وسراقب وأتارب، وجميعها معاقل سابقة لـ «الجيش السوري الحر». وعند احتلال مثل هذه المجتمعات، تتوخى «هيئة تحرير الشام» الحذر والتعقل بغية تجنب إثارة عداء السكان المحليين.
وفي الأقسام الجنوبية والشرقية من المحافظة، تكتفي «هيئة تحرير الشام» بغزواتها السابقة للقواعد العسكرية للجيش السوري كما حصل في أبو الظهور. وأخيراً، تحتفظ بمعاقل بالقرب من حلب (في الضواحي الشمالية الغربية)، وحماه (خان شيخون)، واللاذقية (جسر الشغور)، التي يمكنها من خلالها استكشاف فرص للتوسّع ضد النظام السوري. أما المناطق الأخرى التي لا يسكنها العرب السنة فهي أكثر صعوبة في السيطرة عليها. وعلى نطاق أوسع، لا تسعى «هيئة تحرير الشام» إلى استمرارية جغرافية بل إلى السيطرة على نقاط استراتيجية يمكنها من خلالها شن غارات، بما في ذلك ضد قرى مثل كفرنبل، وهو معقل مناهض للإسلاميين. وبعد أن استمدت الولاء من الفصائل المحلية في جميع أنحاء منطقة إدلب، بإمكان «هيئة تحرير الشام» حشد آلاف المقاتلين الإضافيين، كما هو الحال في هجوم حماة ضد الجيش السوري في ربيع 2017.
ويتيح المعقل الرئيسي لـ «هيئة تحرير الشام»، الذي يشمل منطقة الحدود مع تركيا من جسر الشغور إلى باب الهوى، التحكم بنحو منقطع النظير بكل من المدن والريف. ويمكن إيجاد نقطة ضعف وحيدة في منطقة يسكنها التركمان شمال اللاذقية، وهي محمية تركية صغيرة تستخدم معبر اليمضية الحدودي. وتُعد السيطرة الشاملة على الحدود التركية-السورية أمر أساسي لكي تؤكد «هيئة تحرير الشام» سلطتها على المحافظة وقدرتها على الهيمنة على الفصائل الأخرى. فمثل هذه السلطة تمكّن الجماعة الجهادية من احتكار المساعدات الإنسانية وجميع أنواع التجارة مع تركيا من خلال هذا المعبر. وبالفعل، بينما تمارس شتى الجماعات أعمال التجارة مع المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، تأتي المساعدات الإنسانية من تركيا بنحو شبه حصري، علماً بأن إطعام سكان المنطقة الذين يبلغ عددهم مليوني نسمة، نصفهم تقريباً من المشردين داخلياً، أمر ضروري. بالإضافة إلى ذلك، إذا تعذّر على الفصائل الأخرى الحصول على الأسلحة من تركيا والمنطقة الحدودية التي تسيطر عليها تركيا بين عزاز وجرابلس، فإنها قد تلجأ إلى الحكومة السورية لتجنب دمارها إذا استمر الوضع الراهن.
وفي 22 آب/أغسطس، أعلنت «هيئة تحرير الشام» عن تعزيز سيطرتها على جميع اللجان المحلية – التي تتألف من المدنيين الذين يوفرون الخدمات العامة ويوزعون المساعدات الإنسانية من الخارج – ضمن “المنطقة المحررة”. وبنحو يثير الفضول، أعقب هذا التصريح بياناً أصدرته تركيا طلبت بموجبه إنشاء هيئة مدنية لإدلب تتولى إدارة المساعدات الإنسانية والمعابر الحدودية، وتهدد خلاف ذلك بوقف المساعدات الإنسانية. ومع ذلك، فإن «هيئة تحرير الشام» تدرك أن تركيا لن تخاطر بدعوة مئات الآلاف من السوريين الجائعين إلى حدودها، وهو تدفق لا يمكن التحكم به. وسيكون أول هؤلاء الوافدين من المشردين داخلياً الذين ستغص بهم المخيمات بنحو كبير، بسعيهم للحصول على الحماية من عمليات القصف التي يشنها النظام السوري.
الهجمات الانتحارية
والتصرف التركي المحتمل
بالنسبة لـ«هيئة تحرير الشام»، تشكل مخيمات المشردين داخلياً مواقع مثالية للتجنيد حيث يمكن للجماعة استغلال بؤس السكان الضعفاء. فعلى سبيل المثال، قام الجهاديون بتجنيد آلاف المراهقين لاستخدامهم ككبش فداء في المعركة على الراموسة في آب/أغسطس 2016، مما سمح بخرق الحصار المفروض على حلب مؤقتاً. وعلى الرغم من أن المعركة لم تكن ضرورية على الصعيد العسكري، إلّا أنّها هدفت إلى تعزيز مكانة «هيئة تحرير الشام»، التي أعيد تشكيلها من «جبهة فتح الشام» لكنها انفصلت بنحو ودي عن زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري. وتحتاج المنظمة الإرهابية الآن إلى تجنيد الانتحاريين بنحو مستمر، وهم من بين أفضل ما تملكه في الحرب. وفي حين تستقطب الهجمات الانتحارية إعجاب وتقدير قادة جهاديين آخرين، إلا أنها تخيفهم في الوقت نفسه لأنهم يدركون أنهم ليسوا بمنأى عنها. وفي إطار نشره للمهاجمين الانتحاريين، توافق زعيم «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني تماماً مع وصف “شيخ الجبل” الذي تحدث عنه برنارد لويس في كتابه “ذي أساسينز” [“الحشاشون… فرقة ثورية في تاريخ الإسلام”]. وعلى وجه التحديد، يمكن أن تعتمد «هيئة تحرير الشام» على «الحزب الإسلامي التركستاني» لتأمين أعداد كبيرة من الانتحاريين الذين تمّ تلقينهم إيديولوجياً في معسكراته التدريبية للأطفال بالقرب من جسر الشغور. يُذكر أن الانتحاريين الأويغوريين سبق لهم أن حاربوا على الخطوط الأمامية للمعركة على الراموسة.
وبالنظر إلى التطورات الأخيرة، لا ترغب أي جهة حكومية في تحويل محافظة إدلب إلى مصنع جهادي. وعلى وجه الخصوص، قد تصبح لدى تركيا المحفزات اللازمة للتدخل عسكرياً استناداً إلى التهديد الإرهابي ومصالح أنقرة الجيوسياسية. ويقيناً، أن الأتراك يولون أولوية لمنع تأسيس كيان مؤيد لـ «حزب العمال الكردستاني» يعمل بين عفرين ونهر دجلة. ومع ذلك فإن مستقبل إدلب يدخل أيضاً في حسابات أنقرة، وقد تصب التطورات هناك في صالح الأكراد أو ضدهم. وبالفعل، أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن رغبته في إقامة منطقة خاضعة للوصاية التركية في إدلب شبيهة بتلك القائمة في ممر أعزاز-جرابلس. وإذا تصرف الأتراك، قد تؤدي خطتهم العسكرية إلى ضربة في سوريا تمتد على مسافة خمسة وثلاثين كيلومتراً تقريباً، من جسر الشغور إلى باب الهوى، بما في ذلك مدينة إدلب. ومن شأن هذه الحملة أن تؤدي حتماً إلى معركة كبيرة مع «هيئة تحرير الشام» التي تحتل المنطقة نفسها على وجه التحديد.
عدم وجود خطط طويلة الأمد
لإمارة «هيئة تحرير الشام»
يدرك أبو محمد الجولاني أنه فور دحر تنظيم «الدولة الإسلامية»، فإن التحالف بقيادة الولايات المتحدة، إلى جانب روسيا وتركيا وإيران، سيحوّلون نارهم نحو جماعته. ورهناً بتطورات الحملة المناهضة لـ تنظيم «داعش»، والتعاون بين هذه الجهات الخارجية، قد يكون أمام جولاني عاماً واحداً أو عامين قبل أن يحين وقت جماعته. ويدرك بالتالي أن هدفه الرئيسي لا يتمثل بإقامة إمارة إسلامية دائمة في إدلب، وإنما تأسيس قاعدة تجنيد لجيشه من الجهاديين، وفقاً للمبادئ التي وضعها الظواهري: “يجب أن تركز استراتيجية الجهاد في الشام على حرب العصابات… لا تنشغلوا في التمسك بالأرض”.
وتفسر مثل هذه اللغة سبب سعي المجتمع الدولي بإلحاح إلى التصدي لـ «هيئة تحرير الشام»، التي تزداد قوةً يوماً بعد يوم، من دون انتظار التدمير الكامل لتنظيم «الدولة الإسلامية». على اللاعبين الدوليين أن لا يعتمدوا على المتمردين المعتدلين، أو «أحرار الشام»، لتحقيق هذا الهدف. وفي الواقع، يجب أن تكون مقاربة التحالف الدولي الشاملة تجاه «هيئة تحرير الشام» في إدلب مماثلة تماماً لتلك التي ينتهجها إزاء تنظيم «الدولة الإسلامية» في الرقة وأماكن أخرى. وسيؤدي عدم القيام بذلك حالياً إلى تكبّد تكاليف باهظة في وقت لاحق.
* أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في “جامعة ليون 2″، وزميل زائر في معهد واشنطن.