د. مثال غازي
يعد النص المسرحي مثابةً ومقتضىً اساسياً في تشكل تاريخ بنية المسرح في العالم، ومنه تتجلى وتنبثق جميع الاسئلة الكونية الهائلة عن ماهية هذا العالم … العالم الذي يختزننا ونختزنه ، الذي نعيش فيه ويعيش فينا . تارةً نرفضه وتارةً نتصالح معه ، تارةً نتمرد عليه وتارةً نفترض مجاورته صاغرين امام ثوابته التي لا يمكن تجاوزها . إذ لا بد لكل نص من حكايه نستحضر فيها وقائعنا الماضية الثابتة بروح الحاضر المتغير من اجل صياغة متناً حكائياً يحتكم الى المرجع الاكبر الا وهو التاريخ والعالم والمجتمع ، كما ان الحكاية تمثل جملة مغادرات ضروريه وتحرر من عوالم قائمة باتجاه عوالم ممكنه كما يقول (رولان بارت) فالكاتب المسرحي لا يعيش عمله كتأسيس بل يعيشه كمغادرة ضرورية اطلق عليها (بول ريكور) الصراع بين المبتكر والمترسب بين ما هو كائن وبين ما سوف يكون ومن هنا تجلت وظائف النص المسرحي وتحديداً الحكاية داخل النص ومنها:-
1 – اعتمدت الحكاية استراتيجية نقل الخبرات والمعارف والتجارب الى الاخر.
2 – الحكاية تمنحنا متعة التلصص واستراق السمع لعوالم الاخر بكل ملابساته واسراره وخصوصياته ، وفي ذات الوقت توفر لنا الحصانة الكافية من العقاب بسبب ارتباط عوالم النص المسرحي بشيء من الخيال والمبالغة في عالم متخيل ومفترض برغم ان بعض مصادره واقعية كما يقول (مانفرد)
3 – تمنحنا الحكاية داخل النص المسرحي التحرر من جملة مكبوتات يجد فيها المؤلف والمتلقي متنفسه بعيداً عن محددات واشتراطات الواقع
4 – تجعل الحكاية من ما هو غير محتمل واقعاً جديداً مفترضاً قابلاً للاحتمال وهنا يفضل (ارسطو) في كتابه (فن الشعر) المستحيل الممكن على الامر الممكن غير المحتمل
ومن هنا تتأسس الضرورة النفسية والاجتماعية والتاريخية من خلال استعراض ما تقدم من وظائف الحكاية داخل النص المسرحي.
إذ اضطلعت العقلية المسرحية في العراق وتحديداً من منطلقات نصيّه بكل هذه الوظائف والمهام لترسم للمسرح العراقي هويته الوطنية والمحلية .. حيث يقول الفنان (سامي عبد الحميد) بأن المسرح (العراقي) ولد بولادة المؤلف المسرحي العراقي الذي اضطلع بمهام هذا التأسيس لتكون للقضايا اليومية والتحولات المجتمعية والمرجعيات التاريخية والدينية والاسطورية والعالمية عماد كل نص.
لقد تصدى النص المسرحي العراقي ايها الساده عبر عقود طويلة لكل هذه التحولات الفكرية والسياسية ومنها :-
1 – حروب الخذلان والنكسة والهزيمة
2 – الانقلابات والتغييرات السياسية
3 – الدكتاتوريات البغيضة القامعة للحريات
4 – الاحتلالات والاجتياحات
5 – عقوق الابناء ازاء وطنهم الام
6 – ضياع الانسان وشعوره باليأس
ليكون النص عبر كل هذه المؤشرات القاسية والمؤلمة وعاءً مراً لكل هذه الانتكاسات والهزائم المجتمعية والتاريخية والانسانية. منذ قيام الدولة الملكية وحتى قيام دولة ملوك الطوائف الحزبية والسياسية في عصرنا الحالي.
ليتصدى (نورالدين فارس) و (طه سالم) و (يوسف العاني) و (عادل كاظم) و(بنيان صالح) و (خزعل الماجدي) و (فلاح شاكر) لهذه القضايا بروح الشجاعة والمعرفة والتنوير والقائمة تطول على اعتبار ان المسرح كان ولا يزال بيئة جاذبة ليس فقط لكتابنا المعتمدين في المسرح فمنهم من قدم من تخوم القصة مثل (عبد الستار ناصر) والرواية والشعر مثل (خزعل الماجدي) وغيرها من الفنون.
وقد أشر الناقد العراقي الكبير (ياسين النصير) في كتابه (في المسرح العراقي المعاصر عدة مؤشرات ومستويات لتصنيف التوجهات النصّيه للكتاب المسرحيين العراقيين ومنها :-
1 – استلهام التراث الاسطوري العربي والانساني كما في مسرحيات (الطوفان) لـ (عادل كاظم) ومسرحية ( سيدرا ) لـ (خزعل الماجدي) ومسرحية (الصبي كلكامش) لـ ( عقيل مهدي)
2 – البحث عن ما هو درامي في اللغة والتراث والادب كما في مسرحية (بغداد الازل بين الجد والهزل) ومسرحية (تموز يقرع الناقوس) لـ ( عادل كاظم) ومسرحية (السؤال) لـ (محي الدين زنكنه)
3 – محاكاة تيار الواقعية كما في مسرحية (المفتاح) و(الخرابة) لـ (يوسف العاني) و (بنيان صالح)
4 – محاكاة تيار المسرحية العالمية باتجاه التعريق والاعداد مثل مسرحية (هاملت عربيا) و (البيك والسائق) المعرقة من قبل الشاعر (صادق الصائغ) والمقتبسة من مسرحية (بونتلا وتابعه ماتي) للكاتب الالماني (برشت)
لتتنوع الاساليب والاتجاهات الاخراجية التي تصدت لهكذا مستويات من التوجهات النصية.
الا ان اخطر تحدي يواجهه النص المسرحي هو ان يقف ازاء معادلة صعبة ومعقدة داخل العرض المسرحي الا وهي قضية التوفيق بين متعاليات النص الادبي بكل محمولاته الفكرية والفلسفية العالية وبين مقتضيات التشكل الصوري للإخراج بكل محمولاته الجمالية البصرية منها والسمعية , وفي الغالب يميل المخرج الى الاستقلالية في طرح رؤاه وطموحاته ، ليتعامل مع النص كمقترح اولي قابلاً للإزاحة والتهميش ، وبالتالي ينحاز المخرج الى سلطته لينطلق بعيداً عن سلطة المؤلف ليتحول النص عنده الى حقل للمران الفكري ومقترحاً اولياً قابلاً للزوال ازاء الرؤية الاخراجية للعمل . ومن هنا شيئاً فشيئاً تنامت سلطة المخرج الى مجموعة صلاحيات وسلطات اكبر اطلق عليها وظيفياً بإسم (المخرج – المؤلف) إذ ينحسر دور المؤلف التقليدي كواجهة عريقة ليتحول الى واجهة مهجورة للعمل ووزناً زائداً يثقل على كادر المسرحية وجودها في صالات المطارات
فلا يجب ان ننسى سادتي قوة وتنويرية ومعرفية النص المسرحي العراقي كضرورة ومقتضى تأسس عليها تاريخ المسرح العراقي الرصين فقوة مسرحنا من قوة كلماته وجمله وحكاياه وقد كانت خير معبر عن آلامنا و طموحاتنا جميعاً خلال تلك العقود الطويلة التي مرت على تاريخ مسرحنا العراقي
واخيراً لا بد لي ان اسأل اين نصوص (عادل كاظم) .. اين نصوص (محي الدين زنكنه) و (يوسف العاني) و (طه سالم) و (نور الدين فارس) و (فلاح شاكر) ازاء هذه الخارطة المسرحية الكبيرة من المخرجين ، لماذا عجزت رؤانا عن اعادة انتاج نصوصهم ، وهل هذا هو مصيرنا جميعاً ان تمحو الريح آثارنا حال مرورنا من على يمين خشبة مسرح الحياة باتجاه يسارها.
فمن هنا وبصدق ادعو الى تأسيس مؤسسة تعنى بالذاكرة المسرحية العراقية يكون من مهامها :-
1 – ارشفة النصوص المسرحية العراقية وحفظ تاريخ الآباء المؤسسين للمسرح العراقي من الكتاب
2 – ارشفة العروض المسرحية قاطبةً ولمختلف الاجيال من المخرجين
3 – انشاء اكبر مكتبة مسرحية تعنى بالإصدارات المسرحية الحديثة
4 – تتولى المؤسسة بنحو سنوي اقامة المؤتمرات النقدية والمعرفية لمناقشات مستجدات الواقع الراهن للمسرح العراقي
5 – انشاء متحف يضم مقتنيات الآباء المؤسسين للمسرح من مخطوطات ونسخ مسرحية يدوية
6 – اقامة معرض دائم كبير للصور الفوتوغرافية لصور العروض والفولدرات الخاصة بالمسرحيات
7 – عروض لمسرحيات مهمة تُقدم بنحو اسبوعي (داتا شو) ليطلع عليها الاجيال الجديدة.