سرقات أدبية

لي صديق شاعر ربطتني به علاقة وثيقة لسنوات طوال. وكنت أحج إليه في منزله كلما أمكنتني الظروف. فيطلعني على نتاجاته الأخيرة، ما نشر منها وما لم ينشر. ولم أخف عنه إعجابي بموهبته، وافتتاني بشاعريته. وكنت أتمنى في داخلي لو أوتيت بعض ما أوتي هو من قدرات. إلا أنه كان شديد التواضع لدرجة بت أخشى معها أن يصبح ضمن دائرة الشعراء المنسيين وهو مايزال في قمة العطاء.
وتشاء الظروف أن أفترق عنه لسنوات، ثم أعود فأجد أنه قد توفي. وبقدر ما أحزنني الأمر، بقدر ما دفعني إلى العناية بذكراه. فسعيت إلى تقديم خدمة صغيرة له، تليق بما كان له في قلبي من منزلة، وما ترك في نفسي من أثر. وكان من الطبيعي أن يكون في مقدمة ذلك إخراج تراثه إلى الملأ حتى يعرفه الناس ويحفظوا له مكانته.
بيد أن مثل هذا الأمر لم يكن متيسراً كما ظننت أول مرة. وكاد أن يكون مستحيلاً. فللرجل أولاد بلغوا مرحلة الشباب، وهم ورثته الشرعيون. وقد تلقفوا منه حب الأدب وتذوق الشعر. وليس هناك من هم أولى منهم بتاريخه. وحينما سألتهم لم ينشروا تراثه، وهو حلم لم يستطع تحقيقه في حياته، اعتذروا أن بعض مقطوعاته سرقت حال نشرها في بعض المواقع. وهم يتخوفون من تكرار الحادث، واستشراء الوضع.
مثل هذه الحال لا يقبل بها أحد من سواد الناس، فضلاً عن المشتغلين بالثقافة. لكنها مع ذلك ظاهرة شائعة، لم يخل منها عصر من العصور. حتى أن كبار الشعراء القدامى وصموا بها، وعوتبوا عليها. إلا أن هؤلاء لم يجرؤا كما جرؤ معاصرونا على سرقة النصوص، بل اكتفوا بالمعاني، وعفوا عن الألفاظ. فالمعاني تحتل الركن الأول في الإجادة، أما الألفاظ فلها الموقع الثاني من الأهمية.
حدث هذا حينما كان الشعر متداولاً في الأسواق والمنتديات والمجالس الأدبية. وكانت القصائد الطوال تحفظ وتستظهر وتروى، فلا تخفى من السرقات خافية. أما اليوم فإن الشعر يقرأ ولا يحفظ، ويسمع ولا يستعاد. وكثيراً ما يتعرض للسطو والانتحال من دون أن يشعر بذلك أحد. فالمصادفات هي وحدها التي تتيح لصاحب النص أن يكتشف الجريمة. وإذا ما وقع عليها فليس بيده أي حيلة لإيقافها، أو الحد منها. ذلك أن وسائل النشر السهلة جعلت الاحتفاظ بالملكية الفكرية من أصعب الأمور.
بل إننا بدأنا نقترب بسبب هذه الحال من مشاعية الثقافة. أي أن يفقد الأشخاص ملكيتهم الفكرية لصالح المجتمع. وتصبح الأعمال المنتجة ملكاً عاماً للجماعة أو الأمة. وتغدو تراثاً شعبياً مجهول المالك مثل الأساطير والحكايات الشعبية والأمثال والسير والملاحم القديمة.
لقد بات هذا الأمر قاب قوسين أو أدنى من القبول. ولم يعد أصحاب النصوص قادرين على الوقوف بوجهه. فمنتجو النصوص القديمة لم يتخلوا عنها بمحض إرادتهم. وحتى نصل إلى هذا الحد ستكون النصوص المترفة الغنية هي وحدها القادرة على التحدي.
ومع ذلك فإن نشر النصوص هو أفضل من خزنها في الأدراج المظلمة. لأنها ستكون عندئذ عرضة للضياع. وليس في ذلك أي نفع للمالك أو القارئ على حد سواء.
محمد زكي إبراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة