عبد علي حسن:
لاتتوقف أهمية القص الغرائبي/ العجائبي/السحري عند حدود القدرة على تخليق العوالم الداخلية على وفق متخيل يجنح الى الابتعاد عن تمثل ومحاكاة الواقع لغويا ، وانما يذهب بعيدا الى اعتماد ذلك العجائبي ليكون متخيلا للواقع ، أي بكون النص هو تأويل تخيلي للواقع ، ولعل نزوع النص الى هذه الاسلوبية تمنحه مزيدا من اللعب الحر في توسيع رقعة المتخيل الغرائبي لاعتبارين الأول هو عدم التزامه بمبدأ السببية المحتكمة الى منطق مايمكن حصول هذا المتخيل على ارض الواقع — وهو ماتلتزم به القصة الواقعية — والثاني هو اطلاق قدرات تأويل النص للواقع واستبداله بآخر يزيد من تردد القارئ وبهذا الصدد يشير تودوروف في كتابه (مدخل الى الادب العجائبي ) الى ان الأدب العجائبي ( هو ادب خارق للعادة ويثير الغرابة شكلا ودلالة انطلاقا من تردد القارئ أمام عوالم الحكاية المدهشة ) — مدخل الى الادب العجائبي /تودوروف /ص5 . ترجمة الصديق بوعلام / دار الكلام/الرباط/ 1993 — ، ولئن يتمتع المؤلف بهذه الحرية واللعب السردي المتخيل في تأويله للواقع عبر تقديم نص يعد نسخة متخيلة لذلك الواقع غرائبيا فإن القارئ عبر تردده امام عوالم الحكاية المدهشة فإنه يجد نفسه أمام دائرة متسعة وفسحة كبيرة لتأويل النص المتخيل من خلال عدم التزامه بمبدأ السببية المنطقية للأفعال واحداث الحكاية التي هي الأخرى غير ملتزمة بهذا المبدأ ، ولعل هذا التردد هو ما سيدركه المتلقي في المجموعة القصصية ( واسألهم عن القرية ) للقاص انمار رحمة الله الصادرة عن دار سطور ط اولى /2016 . لقد احتفظ العنوان بشمولية مكانية جعلت القرية مكانا لأغلب قصص المجموعة خاصة في قسمها الأول اذ ان العنوان لم يكن اختيارا عشوائيا لأحد عنوانات القصص ليكون عنوانا للمجموعة ، فلم تكن ايا من القصص حاملة لهذا العنوان الذي تمتع بخاصية التناص مع الآية الكريمة (واسأل القرية ….) على سبيل الامتصاص ، فقد أجرى القاص عبر هذه الخاصية تدخلا مارس اقلاب الحال الذي ولد مفارقة تستدعي وضع تفسير ما يتحرك في منطقة قصدية القاص في توجيه الخطاب لمساءلة أشخاص ما عن القرية وسيتبين أن هؤلاء الأشخاص هم أبطال قصصه الذين يتوجهون من المدينة الى القرية لمهمة بدت في أغلب حالاتها مهمة تنويرية ، ولعل الاشارة الى القرية تمتلك الإحالة الى المفاهيم البدائية للقرية كمكان بعيد عن تشوهات المدنية وتحيل الى الجذور والأصالة وسواها من المفاهيم الأخلاقية التي تعرف بها القرية كاشارة الى الإصول البدائية . الا ان مجريات الأحداث التي شهدتها القرية كركن سردي واضح المعالم يشير الى غير ذلك ، فعبر البناء الغرائبي للأحداث تمكن القاص من تقديم تأويل للواقع من أجل تثبيت معنى يتقاطع كليا مع التصور المسبق للقرية بالتوصيفات التي اشرنا اليها آنفا . ففي قصة (الرسام) ومن خلال البناء الغرائبي للنص تتبدى المحاولة لتثبيت معنى او متخيلا لواقع القرية بما هي عليه ،فالرسام يحزم حقائبه للذهاب الى القرية ليرسم المشاهد الأثيرة لديه التي تظهر الجمال الخالص للطبيعة وسكان القرية الذين كانوا يبدون بوجوه جميلة كما يراهم وخاصة وجه ( العراف) الا ان الرسام يفاجأ بحالات الغش والإحتيال التي يمارسها سكان القرية في معاملاتهم اليومية فيما بينهم وكذا مع الغرباء وحين يشكو امرهم للمرأة العجوز التي يسكن عندها تجيبه(هذا ماتعودنا عليه..انه شيء طبيعي …النص ص15) ليعرف بأن وجوهم ملائكية وموازينهم مريبة ، ونظرا لمقاطعة اهل القرية له لدمامته فإنه يضع لثاما على وجهه كي لايراه أحد ، وبعد اكتشاف أمره من قبل عراف القرية الذي يأمره بالرحيل ، وفي لحظة رزم حقائبه للعودة الى مدينته يبدا المطر بالهطول بكميات كبيرة وبشدة ولاحظ امرا غريبا ( فدهش حين رأى وجوههم تسيل اصباغا ملونة، غسلها المطر وأزالها عن مواضعها التي تعودتها، فظهرت له وجوههم ممسوخة قبيحة ،دميمة مستهجنة ….ووجه عرافهم كان اشد الوجوه قبحا ورعبا……النص ص18) الامر الذي شغلهم عن الرسام الذي لم يعد بالامكان التعرف عليه بين اهل القرية لأنهم أصبحوا مثله . وهنا تتبدى وجهة نظر النص الذي اختلق الحكاية الغرائبية وفق تأويله وتخيله للواقع الذي صدم الرسام ولتكون وجهة نظر النص متاحة لتأويل المتلقي للوصول الى نتيجة ارادها النص وهي ان القرية لم تعد المكان البدئي الخالص الجمال والخالي من تشوهات وانحرافات المدنية التي وصلت الى بنيته الاجتماعية والفكرية .ويصل القاص الى ذات النتيجة المشار اليها آنفا وعبر تخليقه لغرائبية الحكاية كما في قصة (عودة الحكاء )التي تفترض عودة حكاء القرية الى الحياة بعد موته ليشهد ظهور حكاء جديد ذو نهج مغاير لما كان يقصه من الحكايات الخرافية وقصص الجان التي لم تزد القرية الا تخلفا والحياة في ماض تكتنفه الخرافة والجهل وبعد ان ينفرط مجلسه نتيجة انسحاب اهل القرية الى مجلس الحكاء الشاب الجديد الذي يحاول بث روح الأمل والعمل والتنوير في القرية ، لم يجد بدا من الانسحاب والعودة سرا الى حفرة قبره، وفي قصة (المعلم) يعمد القاص الى حكاية غريبة تكشف عن طيبة المعلم واستغفاله من قبل اهل القرية الذين يحولوه الى حمار يسحب العربة بدلا من الحمار النافق ليساعد الحمال الفقير الذي يمارس استبدادا وظلما واستغلالا لطيبة المعلم وتطوعه لسحب العربة لعدم تمكن الحمال من شراء حمار. وفي نهاية القصة التي تشهد مفارقة جميلة وهي هرب المعلم ليلا باتجاه البساتين لتشهد القرية بعدئذ وصول معلم جديد ببدلة أنيقة وحقيبة بدلا من المعلم السابق الذي فشل في مهمته . وبذات المستوى الغرائبي يتجه القاص انمار رحمة الله لتخليق بنية غرائبية عدت متخيلا لمعطيات واقع القرية الذي وجد فيه انحرافا عن ماهو راكز في الذاكرة الشعبية والجمعية حول القرية وثوابتها الاصولية والاخلاقية ، وليشير وبنحو واضح الى ان التشوهات قد انتقلت الى القرية لتزيح تلك التصورات المسبقة عبر بنية الحكاية الغرائبية التي امتلكت قدرة الاحاطة بوجهة نظر النصوص وخلق فسحة تأويلية ممتدة للوصول الى مغزى النصوص من قبل المتلقي ، فقد اتجهت اغلب قصص القسم الأول من المجموعة الى بناء الأحداث وفق غرائبية تخلق وعيا جديدا بمخرجات الواقع وتأويلها تخيلا خالصا لتثبيت معنى من المعاني يساعد المتلقي في التوصل الى قراءته الخاصة به . وفي القسم الثاني الذي تضمن قصصا لم يشأ القاص وضع تصنيف اجناسي لها بعدها قصصا قصيرة او قصص قصيرة جدا ، الا ان بعضا منها قد خاز على توصيفات القص القصير جدا ، فإن بنية الحكاية الغرائبية امتدت على مساحة واسعة من الأحداث المفترضة او المتخيلة لتكون هذه البنية مهيمنة على اسلوب البناء السردي للقصص بعدها معادلا موضوعيا للواقع الذي بدا في اغلب القصص واقعا منتهكا وبشخصياته المعرضة دوما لعوامل الاكراه والتهميش والدونية الاجتماعية . لقد تمكن القاص انمار رحمة الله في مجموعته القصصية هذه (واسالهم عن القرية)من زحزحة البنية التقليدية للسرد الواقعي باتجاه تخليق المعادل المتخيل والغرائبي لحراك الواقع بغية امتلاك اللعب الحر في تخليق وادارة السرد وبما يضمن توفير فسحة تأولية يتمتع بها المتلقي .