قاسم سعودي يستعيد قصيدة الذاكرة

يحاول الشاعر أنْ يصطنع له ذاكرة، وأنْ يعيد توصيف مفهوم القاموس، إذ كثيرا ما يعمل هذا القاموس على محاصرة الذاكرة، ونبشِ في ما تحمله من هواجس الموت والحرب والغياب، وتهديد ما هو قارّ وراكز في لاوعي اللغة والعائلة والقاموس ذاته..
يكتبُ سعودي القصيدةَ وكأنّه يُساكنها، فهي لذتُه التعويضية، ومزاجُه الجنوبي الذي يلثغُ حروفَه بمرارة، ويُغنّي شغفَه السري بالمعنى، مثلما هو ذاكرته المحشوة بالوجع والغبار ورائحة الأب، وفجائع الحرب، إذ تتلبسه القصيدة بوصفها لعبته، وطقوس سحره، حدّ أنه يتخلّقُ داخلها بنوعٍ من التعالي، والمفارقة، والطفولة، وبما يُعطي لهذه القصيدة توصيفا ضاجا بالغناء، واستعادة المفقود، كون كتابتها معادلا لفكرة الزمن الغائب، وللرؤيا التي تتسع كلما ضاق به البوح، وانكسرت عنده العتبات.
قصيدة سعودي هي القصيدةُ المضادة للموت، وبرغم أنه يستحضره بهوسِ مَنْ يكتب وصيته، لكنها تبدو- أيض- أكثر نزوعا للتمرد عليه، ولإعادة تمثّل شفرة الموت استعاريا وتصوريا، وكأنها محاولته في ابتكار معانٍ أكثر شغفٍ بالحياة والطفولة والوجود..
الأب،ـ الأخ، الطفولة، الحرب هي العلامات الفارقة في قصائده، إذ يحضر الأب بوصفه صانعَ الوصايا، ويحضرُ الأخُ بوصفه رمزا للفقد، ولفداحة ماتركته الحربُ، وتحضر الحرب بوصفها الذاكرة الضد، أو اللعبة القاسية في المحو والاغتراب، وتحضر الطفولة لكي يدرك الشاعر أنها فضاؤه النقي، رغبته الحميمة في الاستعادة، وفي اصطناع عالم طهراني، له تشكلاته اللغوية والبصرية، وله أنشودته التي تستغرق قاسم سعودي في قاموس لغوي غنائي، لكنه ضاج بالوضوح، مثلما ضاجُّ بالحياة والخلق والذاكرة المجروحة بالفقد، وبارتعاشةِ الجسد العائلي..
في يومٍ ما كانتْ أمي تمتلكُ قطعةً ذهبيةً صغيرة،
صغيرةً جداً
أخذها منها العسكرُ أيامَ الحربِ،
أبي شقيَّ عاماً كاملاً في حقلِ القمحِ
ليجلبَ لها تلك القطعةَ الذهبيةَ الصغيرة
التي تحولتْ إلى رصاصةٍ ساخنةٍ قتلتْ جندياً هناك.
أمي الآن لا تتذكرُ تلك القطعة،
لكنها ترى في المنامِ كثيراً
جثةَ ذلك الجندي الخائف.
تقانة النثر التي يتكئ عليها الشاعر سعودي، تبدو أكثر تعبيرا عن تلك النزعة التصويرية، وعن هاجسه في كتابة(القصيدة الشخصية)، فبقدر ما تتكثف فيها البلاغة الشعرية في هذه القصيدة، فإنها تنحاز الى لعبة التصوير، حيث تركيب المشهد الشعري، واللقطة الشعرية، وبما يجعل القصيدة أكثر تمثّلا لبنية الدراما، والسينوغرافيا، والنشيد، والوصف، وعبر استنطاقها، بوصفِ قصيدته تنزع دائما الى لغة البوح والاعتراف ، أو حتى كتابة ما يشبه نص السيرة، أو نص الذاكرة والشهادة، وبكلِّ ماتستدعيه هذا النصيّات من حفرٍ وتشكيل، واستعادة، ورؤية تتقشر عنها البلاغة، والهتاف، لتبدو القصيدةُ عاريةً، مكشوفةً، فاضحةً، يتبدى فيها الشاعرُ وحيدا، باحثا عن ذاكرته وطفولته التي سرقتها الحرب، لتكون اللغةُ هي الشاهد على التحوّل، وعلى ترسيم العالم، واستعادة وصايا الأب، وروح المكان المشغول برائحة الموتى..
في العاشرةِ من عمري
وحتى لا أذهبُ إلى المقهى
اشتري لنا أبي تلفازاً صغيراً
نشاهدُ فيه كأسَ العالم في الأرجنتين
وقتها كان نصفُ بيتنا حديقةً
يأتي أطفالُ الحيِّ جميعاً لرؤيةِ كمبس.
كنتُ لا أُدخلهم إلّا بقطعةِ حلوى،
فلقدْ كنتُ كريماً معهم.
بمرورِ سنتين
تحوّل التلفازُ إلى دبابةٍ كبيرةٍ،
كبرنا جميعاً مع القذائفِ.
ماتَ أبي .. ماتتْ الحديقةُ،
ذهب نصفُ الأصدقاءِ إلى اللهِ
أنجبنا الكثيرَ من الأطفالِ الذي يعشقون كرةَ القدمِ،
وما زالتْ الدبابةُ تطلقُ النارَ في البيت….
قاسم سعودي يتركُ لنا قصيدته، ليغوينا بالأثر والغناءِ، وليمنحَ لها توصيفا خاصا، من الصعب أنْ يتمثله الآخرون، فهي قصيدةٌ بمزاجٍ قاس، مكتوبةً بوجعٍ فادح، وبهاجسِ من يرى العالم وهو يفقد كثيرا من الآباء الذين لم يكتبوا الوصايا.
علي حسن الفواز

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة