قراءة في ماهية التهديدات التركية باجتياح عفرين

د. جاويدان حسن

تلك المدينة الجميلة الصامدة في روجآفاي كرستادن\ شمال سوريا والتي لم يسمع أحد أنينها منذ بداية الحراك السوري حتى اللحظة رغم معاناتها الحصار المُطَبّق عليها من قبل الدولة التركية ومن يدور في فلكها من المجموعات المسلحة التي يسيل لعابها كلما رأت إصرارعفرين على المضي قدما في خلق الحياة والاستمرار في بناء تجربتها الديمقراطية رغم انفصالها الجغرافي عن جسد روجآفا بحكم الاحتلال التركي لمناطق الشهباء جرابلس، إعزاز والباب.
لم تعد تركيا تخفي نواياها الحقيقية في سوريا وسعيها الدؤوب واستعدادها لبيع الغالي والنفيس لمنع وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية من تحقيق التواصل الجغرافي بين كانتون عفرين وكانتوني الجزيرة وكوباني لمنع نشوء الأرضية المناسبة لبناء النظام الفيدرالي الديمقراطي الذي يتطلع إليه أبناء روجآفا والشمال السوري ككل لتبقى عفرين بذلك لقمة سائغة لها -كما تظن- يمكنها ابتلاعها متى شاءت.
لقد تنازلت تركيا عن حلب وتخلت عن المجموعات المسلحة التي تدعمها مقابل السماح لها من قبل روسيا باحتلال مدينة الباب من خلال اتفاقية الاستانة لتفقد بذلك فيما بعد قدرتها الحقيقية على التأثير على مجريات الأمور في الساحة السورية ككل، ويبقى دورها محصورا فقط في المنطقة التي تحتلها احتلالا مباشرا في الشمال السوري، بحيث يمكننا القول أن روسيا أوقعت تركيا في فخ نصبته لها بإحكام حتى بات الدور التركي عمليا هامشيا في تحريك الأوراق في سوريا، وبدى ذلك جليًّا بعد أن رفضت قوات التحالف الدولي لمواجهة داعش التعاون مع تركيا وفضلت عليها قوات سوريا الديمقراطية في عملية تحرير الرقة، فلم يكن من تركيا إلا أن قامت بقصف بعض المناطق في روجآفا بينما لم تستطع فعل شيء يذكر في المناطق الأخرى كحلب، درعا والشام، لأنها فقدت عمليا تواصلها مع معظم المجموعات المسلحة التي كانت تدعمها باستمرار.
أدركت تركيا أنها باتت خارج الحسابات السياسية فيما يخص الملف السوري لذا فإنها تحاول الآن احتلال المزيد من الأراضي والمدن في سوريا ومن بينها عفرين كي تعود إلى المشهد مجددا وتكون حاضرة في مرحلة الحل والاتفاق السياسي التي ستبدأ فيما بعد الانتهاء من حملة تحرير الرقة وهزيمة داعش، وللمساهمة كذلك في تأخير سقوط الرقة وتخفيف الضغط عن داعش من خلال فتح جبهة قتال جديدة لوحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية التي ستتحرك لا محالة لنجدة عفرين.
يمكن تقييم ما تقوم به تركيا كنوع من الهروب إلى الأمام والبدء بالتحضير لمرحلة ما بعد الرقة، تركيا التي تحشد قواتها وتحضر مرتزقتها لشن هجوم جديد على عفرين دون وجود أي مبرر سوى تحقيق مآرب دكتاتورها أردوغان نجحت إلى حد ما في التأثير على وتيرة سير العمليات العسكرية في حملة تحرير الرقة وخلط أوراق الدول العظمى الفاعلة في المشهد السوري، وبدا للوهلة الأولى أن أمريكا ستقف موقف المتفرج إذا ما أقدمت تركيا على هكذا خطوة؛ كون عفرين تقع عمليا في منطقة النفوذ الروسي في سوريا وهناك اتفاق بين روسيا وأمريكا وإن لم يفصح عنه حتى اللحظة يمكننا تسميته باتفاق (لافروف-كيري) يقضي بتقسيم سوريا إلى منطقتي نفوذ على جانبي نهر الفرات؛ منطقة شرقية تتبع النفوذ الأمريكي ومنطقة غربية تتبع النفوذ الروسي.
كما وبدا أن روسيا أيضا مستعدة لإجراء نوع من المقايضة بين عفرين وإدلب مع تركيا بسبب تذمرها المستمر من التعاون بين قوات سوريا الديمقراطية وقوات التحالف الدولي لمكافحة داعش في محاولة منها لِلَيّ ذراع وحدات الحماية الشعبية الكردية في عفرين، لكن المظاهرة العارمة التي انطلقت في عفرين بتاريخ 5\7\2017 تنديدا بالهجمات والتهديدات التركية كانت أشبه ما تكون بالزلال الذي هَزّ المشهد السوري ككل من جديد وأقل ما يقال عنها أنها نقطة تحول جديدة في تطور الأحداث في سوريا كما كانت كوباني ومقاومتها البطولية، وأثبت الشعب في عفرين أن الكلمة الأولى والأخيرة تعود له وأنه هو من يقرر مصيره وليست تركيا أو غيرها، لتبدأ كل من أمريكا وروسيا بقراءة المشهد من زاوية أخرى، وتعلن أمريكا لاحقا عن عودتها للمشهد مجددا وعبر تصريحٍ لوزير خارجيتها ريكس تيلرسون ( فان الولايات المتحدة وشركاءنا في التحالف من اجل هزيمة داعش ملتزمون بضمان ان يتمكن المدنيون في المناطق المحررة مؤخرا من البدء بعملية العودة الى الوطن واعادة بناء حياتهم. ويجب ان تتذكر الجهات الفاعلة في سوريا ان القتال مع داعش. ونحن ندعو جميع الاطراف، بما فيها الحكومة السورية وحلفاؤها، وقوات المعارضة السورية، وقوات التحالف التي تقوم بالمعركة الى هزيمة داعش، وتجنب الصراع مع بعضها البعض، والالتزام بالحدود الجغرافية لمناطق فك الاشتباك العسكري، والبروتوكولات المتعلقة بمنع التصعيد… وانه لا يقوم اي فصيل في سوريا وبشكل غير مشروع باستعادة السيطرة او احتلال المناطق المحررة من سيطرة داعش او غيرها من المجموعات الارهابية..) وتأكيده على أن التنسيق سيكون أكثر مع روسيا في المرحلة المقبلة لتحقيق هذه الأهداف؛ الأمر الذي بدا واضحا بعد اعلان الاتفاق بين الدولتين لوقف اطلاق النار جنوب غربي سوريا، لينجلي الستار نوعا ما عن مستقبل الشمال السوري وخاصة عفرين التي تعتبر منطقة آمنة عمليا والأولوية تعود للبناء وليس للحرب فيها إلا إذا ما أقدم أردوغان على خطوة جنونية وقام باجتياح عفرين الأمر الذي سيطلق مرحلة العد العسكي لحقبة حكمه في تركيا بكل تأكيد، كما حدث مع نظام صدام حسن بعد اجتياحه للكويت.
روسيا تنازلت عن مدينة الباب لإبعاد تركيا عن دمشق وقد تعطي الضوء الأخضر لتركيا ايضا للهجوم على عفرين بغية إبعادها أكثر إذا ما تلقت منها ضمانات منها بالتوقف عن دعم ما يسمى بالمجموعات المعارضة المتواجدة في مفاوضات جنيف كي يبقى لنظام الأسد اليد الطولى في المرحلة القادمة حسب المصالح الروسية التي ستعتبر الوجود التركي في الشمال السوري مستقبلا انتهاكا للسيادة السورية وستطالب تركيا بالانسحاب منه بحسب القانون الدولي فيما بعد، إلا أن روسيا تدرك أيضا قدرة وحدات الحماية الشعبية على التصدي للحملة التركية وستفكر مليًّا بمحاولة كسب ود هذه الوحدات وكسب ود الشعب الذي تظاهر بالآلاف ليؤكد أن كل محاولة لاحتلال عفرين سيكون مصيرها الفشل وسيعود بنتائج عكسية على أية دولة تمد يد العون لتركيا في هذا المجال وسينظر إليها نظرة عدائية تماما كنظرتها لتركيا في وقت أحوج ما تكون فيه روسيا لكسب ود الشعب الذي طالما قالت روسيا أنها تتدخل في سوريا لحمايته.
ستسعى كل من أمريكا وروسيا وخاصة بعد تحرير الموصل إلى خفض مستوى الحرب في سوريا وحماية المناطق التي تعتبر آمنة وذلك تمهيدا لتحقيق اتفاق سوري لإنهاء الحرب القائمة، لذا فإنه بالإمكان القول أن الأزمة السورية قد تجاوزت مرحلة التفاقم والتصعيد لتبدأ مرحلة فرز القوى التي ستلعب دورها الحقيقي في مستقبل سوريا ليؤكد ديمستورا ذلك من خلال تصريحه «في الوقت الراهن أشاهد مقاربة ناضجة جدا، لأنهم (المعارضون) يلاحظون أن الدول الكبرى مثل روسيا والولايات المتحدة بدأت فعلا في بحث سبل إنهاء هذا النزاع..عندما يحين الوقت سيكون من الصعب أن نتجاهل صوت الأكراد السوريين» لذى فإنه من غير المعقول أن تخطو أمريكا وروسيا نحو الوراء مجددا، وتضع كل ما حققته في حربها ضد الإرهاب وكل مصالحها في سوريا على المحك لتتركا المجال لتركيا باحتلال عفرين وإدخال روجآفا في دائرة حرب طويلة الأمد مع تركيا في وقت تكون فيها أحوج ما تكون إلى فعالية قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب لبدء المرحلة الجديدة في مستقبل سوريا، لكن ذلك لا يعني أن عفرين أو حتى قامشلو في مأمن وأنها لا تواجه تهديدا حقيقيا طالما أن هناك عدو متربص بها لا يرى روادع دولية حقيقية وصريحة تردعه عن ارتكاب هكذا خطوات جنونية، ويبقى أن يستمر الشعب الكردي في روجآفا وفي الأجزاء الأخرى من كردستان والعالم على تنظيم المزيد من المظاهرات بهدف التأثير على الرأي العام العالمي وإبراز الدور الايجابي الذي لعبته قوات حماية الشعب في مواجهة إرهاب ما يسمى تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) الذي يشكل خطرا حقيقيا يهدد العالم ككل بهدف تأمين الحماية الدولية المطلوبة لعفرين قبل أن تقدم تركيا على خطوة اجتياحها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة