علي بكر
أدى تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية على قطر بسبب دعمها للتنظيمات المتطرفة إلى تقييم قيادات وكوادر هذه التنظيمات، خاصة المنتمين لجماعة الإخوان المُسلمين للدول والعواصم التي يمكن أن تمثل «ملاذات بديلة» للدوحة في حالة اتخاذ قطر قراراً بطردهم، وهو ما سيؤدي للتغير في سياسات دعم التنظيمات المتطرفة من الاستضافة والتمويل إلى «الرعاية بالوكالة» من خلال الدعم الخفي لهذه التنظيمات في الحواضن الإقليمية البديلة.
خصائص «الوجهات البديلة»:
كانت قطر تعتبر «معقلاً نموذجياً» لقادة وأعضاء التنظيمات المتطرفة، ليس فقط لأنهم يتمتعون بدعم حكومة الدوحة، وإنما أيضاً لأنهم يتمكنون من دعم تنظيماتهم مالياً وإعلامياً انطلاقاً من الأراضي القطرية من دون أية عوائق أو مخاوف من ملاحقات أمنية، وبالتالي فإن الدول التي يمكن أن يلجأ إليها هؤلاء القادة في حالة خروجهم من قطر، يجب أن تتوافر فيها مجموعة من الشروط، تأتي في صدارتها ضمانات «الأمن»؛ بمعنى توافر درجة عالية من الثقة في عدم تغير مواقف هذه الدول واتجاهها لملاحقتهم أمنياً وتسليمهم لدولهم الأصلية، بالإضافة إلى عدم وجود قيود على دعمهم لفروع وخلايا تنظيماتهم في دول الشرق الأوسط.
وتتمثل أهم هذه الضمانات الأمنية في وجود علاقات وثيقة بين الجماعات المتطرفة وحكومات بعض الدول، مثل تركيا، التي ترتبط بعلاقة وثيقة بجماعة الإخوان المسلمين.
ويمكن لقيادات التنظيمات المتطرفة اللجوء لدول بها تيارات دينية لها وجود مؤثر في توجهات وسياسات الحكومات، مثل باكستان أو ماليزيا، أو دول أخرى بها نشاط لأعضاء هذه التنظيمات تحت غطاء الجمعيات الإسلامية، مثل «جنوب أفريقيا»، التي ينشط فيها بعض أعضاء «جماعة الإخوان» ضمن مؤسسات المجتمع الأهلي والجمعيات الخيرية والدعوية.
وستتوقف هذه الخيارات بشكل كبير على مدى استعداد تلك الدول لاستقبال هؤلاء القيادات في ظل وجودهم على قوائم الإرهاب الإقليمية والدولية وملاحقة المؤسسات الأمنية الدولية لهم عبر الإقليم، كما أن العديد من الدول المرشحة لاستقبال التنظيمات المتطرفة تربطها علاقات جيدة مع بعض الدول التي تصنف هؤلاء القيادات كإرهابيين، مما سيجعلها تراجع حساباتها أكثر من مرة قبل الإقدام على هذه الخطوة.
ومن جهة أخرى فإن هذه الوجهات أو البدائل ليست مناسبة لجميع القيادات الموجودة على الأراضي القطرية، في ظل تنوعهم الفكري والتنظيمي، حيث تشمل قائمة القيادات والكوادر التي تستضيفها قطر قيادات جماعة الإخوان المسلمين، والقيادات السلفية والمرجعيات الدينية للتنظيمات المتطرفة، وبعض أعضاء تنظيم القاعدة وفروعه الإقليمية والمجموعات القريبة منه أو المتحالفة معه، لذا فإن الملاذات البديلة ستختلف وتتنوع وفق شبكة علاقات التنظيمات المختلفة وتقييمات هذه القيادات للدول التي يمكنهم اتخاذها كمنطلقات بديلة لتحركاتهم الإقليمية.
خريطة «الحواضن الآمنة»:
لا يوجد معيار واحد لتحديد مدى ملاءمة الملاذات البديلة للتنظيمات المتطرفة التي تستضيفها قطر، وفي هذا الإطار تتنوع مناطق التمركز الجديدة للتنظيمات الإرهابية وفقاً لخصوصية كل تنظيم، بحيث يمكن تصنيفها كما يلي:
1. جماعة الإخوان المسلمين: أدى تمتع الإخوان بمنظومة فكرية برجماتية، إلى تأسيسها علاقات قوية مع حكومات ونخب عدد من الدول على الرغم من الخلافات العقائدية، مثل إيران، التي تجمعها علاقة قوية مع الجماعة، منذ عهد الخوميني، الذي وصفته عند وفاته، بأنه «القائد الذي فجّر الثورة الإسلامية ضد الطغاة»، ولاتزال العلاقة قوية حتى الآن، وهذا ما يفسر صمت الجماعة تجاه الأفعال التخريبية والإرهابية لإيران، مثل الاعتداء على السفارة السعودية في طهران في يناير 2016، أو ما تقوم به إيران في العراق واليمن وسوريا.
وتظل علاقة الإخوان مع تركيا هي الأقوى بالمقارنة بالدول الأخرى منذ تولي وصول أردوغان لسدة الحكم في أنقرة، حيث تطور التحالف الوثيق بين الإخوان وأردوغان بقوة في أعقاب 2011، إذ دعمت تركيا الإخوان في دول الانتفاضات العربية في إطار سياسات إقليمية لدعم تيارات الإسلام السياسي، وعقب 30 يونيو في مصر، أصبحت تركيا قبلة الإخوان الهاربين، وفي صدارة المقرات لقنواتهم ومنصاتهم الإعلامية ومركزاً أساسياً لإدارة قياداتهم وكوادرهم أنشطتهم في الدول العربية.
ويفسر هذا التحالف الوثيق، تأييد قيادات الجماعة السياسات والمواقف الإقليمية لتركيا، ومنحها صك الشرعية الدينية، ويعد دعم «راشد الغنوشي» سياسات قطر خلال الأزمة القطرية في يوليو 2017 نموذجاً على التوافقات المصلحية والفكرية بين تركيا والإخوان، وهو ما يجعلها القبلة الأكثر أمناً لقياداتهم، والوجهة الأكثر ترجيحاً لاستقبال أعضاء الجماعة المغادرين قطر.
وتعد إيران مرشحة بقوة لاستقبال قادة الإخوان خلال الفترة القادمة، خاصة أن كل منهما يجد في الآخر ضالته المنشودة، فالإخوان في حاجة إلى دول تعترف بهم ولا تصنفهم كجماعة إرهابية، مثل غالبية الدول العربية، وفي المقابل تحتاج إيران إلى الجماعة لنفي الاتهامات الطائفية الموجهة لها، وتحسين صورتها التي تشوهت كثيراً بسبب تدخلها الطائفي في سوريا والعراق واليمن.
كما تمثل تونس أحد الملاذات المُحتملة لاستقبال أعضاء جماعة الإخوان المسلمين على وجه الخصوص، خاصة في ظل مركزية موقع حركة «النهضة» الاخوانية ضمن المشهد السياسي التونسي، ودعمها العلني لقطر منذ بداية الأزمة، وتصريحات ومواقف قياداتها العدائية ضد دول الرباعية العربية، وهو ما يجعلها مؤهلة لاستقبال أعضاء الجماعة الموجودين في قطر، خاصة أن حزب «حراك تونس الإرادة» الذي يتزعمه الرئيس السابق منصف المرزوقي، أعلن وقوفه إلى جانب قطر صراحةً، بسبب دورها في دعم وصول المرزوقي للسلطة.
وتضم قائمة الدول المُرشحة لاستقبال أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، باكستان وماليزيا، وجنوب أفريقيا، ولكن هذه الدول يمكن أن تستقبل هؤلاء القيادات كأفراد بصفاتهم الشخصية من دون أن تكون مقراً بديلاً للتنظيم تتم من خلاله إدارة العمليات والأنشطة وإطلاق المنصات الإعلامية، حيث ستحرص هذه الدول على حماية أمنها الداخلي والحفاظ على علاقاتها بالدول الأربع المضادة للإرهاب.
2- قيادات تنظيم القاعدة: يبدو أن الخيارات المتاحة أمام أعضاء القاعدة وحلفائهم الموجودين في قطر، محدودة مقارنة بالخيارات المتاحة أمام أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، فالتنظيم ليس له علاقة جيدة مع تركيا، وبالتالي فهي لن تسمح غالباً لأعضائه بالانتقال إلى أرضيها، خاصة بعد تدهور العلاقة بين تركيا وبين تنظيم القاعدة في سوريا، بعد رفض هيئة تحرير الشام «جبهة النصرة سابقاً» في يونيو 2017، دخول قوات تركية إلى «إدلب»، مما أدى لتوترات حادة في العلاقات بين الطرفين.
ولن تكون تونس ضمن الملاذات الآمنة لقيادات القاعدة، في ظل تردي الأوضاع الأمنية في البلاد، وتصاعد التهديدات نتيجة النشاط المتزايد لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، الذي أصبح يهدد تونس بشكل مباشر. أما الدول الأخرى كـ»ماليزيا» أو «باكستان» فاستقبالها عناصر القاعدة أمر مستبعد، في تلك الظروف.
وتنحصر الخيارات المتاحة أمام أعضاء القاعدة في «إيران»، خاصة في ظل التحالف مع قطر في تلك الأزمة، لاسيما أن إيران تعد ملاذاً قديماً لأعضاء تنظيم القاعدة، على الرغم من الاختلاف العقائدي بين الطرفين، حيث أصبحت إيران إحدى أهم الدول المفضلة لبعض قادة التنظيم، من أمثال سيف العدل وياسين السوري ومحمد المصري، الذين قاموا باللجوء إليها في أواخر عام 2001، بعد انهيار نظام طالبان في أفغانستان، حيث كانت إيران تستخدمهم كورقة ضغط في مواجهة بعض دول المنطقة.
وتفسر هذه العلاقة إحجام القاعدة عن استهداف إيران ومصالحها المختلفة، وأدى ذلك لاحقاً إلى انفصال القيادي السابق «أبو مصعب الزرقاوي» عن «القاعدة»، لرفضه عدم استهداف مصالح إيران، وهذا ما كشف عنه، «أبو محمد العدناني» في مايو 2014، بأنهم كانوا قبل تأسيس «داعش» يبتعدون تماماً عن استهداف إيران، امتثالاً لأوامر القاعدة، وذلك للحفاظ على مصالح التنظيم، وخطوط إمداده في إيران.
وتمثل بؤر الصراعات الإقليمية في سوريا واليمن والمناطق التي تنشط بها المجموعات القاعدية، مثل دول «الساحل والصحراء» في أفريقيا وجهات مُحتملة لقيادات وعناصر القاعدة والتنظيمات السلفية الموجودين على الأراضي القطرية، إلا أن هذه الوجهات تعد غير آمنة مقارنة بالدوحة أو طهران.
تداعيات مغادرة الدوحة:
سيترتب على خروج قيادات التنظيمات المتطرفة بشكل عام من قطر، والتوجه إلى دول أخرى، عدد من التداعيات على نشاط وعمليات تلك التنظيمات، فبخلاف فقدان الملاذ الآمن، فإن هذه التنظيمات سوف تحرم من المنابر الإعلامية، التي توفرها لها «الدوحة»، حيث إن قناة الجزيرة القطرية، كانت تعد المنصة الإعلامية الرئيسية لقادة هذه التنظيمات، ليس لعرض أفكارهم فحسب، بل للتحريض من خلالها على العنف.
وتتمثل أهم نماذج هذا الدعم في حوار الجزيرة مع أبو محمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة، جناح القاعدة في سوريا، في سبتمبر 2016، فضلاً عن استضافتها بعض رموز هذه التنظيمات، مثل عبدالله المحيسني، مسؤول التشريع بجبهة النصرة، الذي تمت استضافته في نوفمبر 2016، والذي ظهر سابقاً في تسجيل مصور وهو يبارك أحد الأشخاص قبل تنفيذه عملية انتحارية، ولقد أسهم هذا الوجود الإعلامي لقيادات القاعدة بالجزيرة في تعزيز أنشطتها الدعائية واجتذاب عناصر جديدة لصفوفها.
ويرجح أن يؤثر خروج هؤلاء القيادات على تمويل التنظيمات التي ينتمون إليها، نظراً لأن التمويل كان يأتي مباشرة من الدوحة، ويتم نقله إلى التنظيمات التابعة لها، ويرتبط ذلك بتوجيه اتهامات متتالية من جانب اللواء خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي إلى قطر بدعم وتمويل المقاتلين المرتزقة من تشاد، والسودان، الذين يقاتلون في صفوف التنظيمات القاعدية على الأراضي الليبية، نظراً لوجود عدد من قيادات هذه التنظيمات، من أمثال «عبدالحكيم بلحاج» و»الصلابي» على الأراضي القطرية.
وختاماً، ستتعرض التنظيمات المتطرفة لضربة قوية في حال قيام قطر بإنهاء استضافتها قياداتهم وكوادرهم ووقفها الدعم المالي والإعلامي الذي تقدمه إليهم لأن ذلك سيحد بشكل كبير من أنشطتها، إلا أن الدوحة قد تستعيض عن سياسات الرعاية المباشرة للتنظيمات المتطرفة، بالدعم الخفي وغير المعلن لهذه التنظيمات في المقرات والملاذات البديلة وهو ما سيجعلها تتجاوز تداعيات خروجها المحتمل من قطر لتواصل تهديدها أمن واستقرار دول الشرق الأوسط، وهو ما يعزز أهمية التوصل لمعايير دقيقة لمراجعة مدى الالتزام القطري بوقف دعم الإرهاب.
* مركز المستقبل للابحاث والدراسات االمتقدمة