أسرة «الصباح الجديد» تستذكر محطات من مسيرة الجواهري الوطنية والأدبيـة

بغداد ـ الصباح الجديد:

مرت قبل أيام الذكرى العشرون لشاعر العرب الجواهري، الذي (ملأ الدنيا وشغل الناس ) محلياً وعربياً وحتى عالمياً، وكما هو معروف فان الجواهري ، غادر العراق لآخر مرة، ومن دون عودة، في أوائل عام 1980، ‏تجول في عدة دول، ولكن اقامته الدائمة كانت في دمشق التي امضى فيها بقية حياته حتى توفي عن عمر قارب المئة سنة.
الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري قرأ القرآن الكريم ولم يحفظه وهو في سن مبكرة ثم أرسله والده إلى مُدرّسين كبار ليعلموه الكتابة والقراءة والنحو والصرف والبلاغة والفقه. وخطط له والده وآخرون أن يحفظ في كل يوم خطبة من كتاب نهج البلاغة وقصيدة من ديوان الشاعر أبو الطيب المتنبي، ونظم الشعر في سن مبكرة‏ وأظهر ميلاً منذ الطفولة إلى الأدب فأخذ يقرأ في كتاب البيان والتبيين ومقدمة ابن خلدون ودواوين الشعر،‏ ولقد كان في أول حياته يرتدي لباس رجال الدين، واشترك في ثورة العشرين عام 1920 ضد السلطات البريطانية، وصدر له ديوان «بين الشعور والعاطفة» عام 1928م. وكانت مجموعته الشعرية الأولى قد أعدت منذ عام 1924م لتُنشر تحت عنوان «خواطر الشعر في الحب والوطن والمديح». ثم اشتغل مدة قصيرة في بلاط الملك فيصل الأول عندما تُوج ملكاً على العراق وكان ما يزال يرتدي العمامة، ثم ترك العمامة كما ترك الاشتغال في البلاط الملكي وراح يعمل في الصحافة بعد أن غادر النجف إلى بغداد، فأصدر مجموعة من الصحف منها جريدة (الفرات) وجريدة (الانقلاب) ثم جريدة (الرأي العام) وانتخب عدة مرات رئيساً لاتحاد الأدباء العراقيين.
كان الشاعر المقرب من الزعيم عبد الكريم قاسم وسمي بشاعر الجمهورية
لانه كان من المؤيدين المتحمسين لثورة 14 تموز 1958 وقيام الجمهورية العراقية لقب ب»شاعر الجمهورية» وكان في السنتين الأولييين من عمر الجمهورية من المقربين لرئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، ولكن انقلبت هذه العلاقة فيما بعد إلى تصادم وقطيعة، واجه الجواهري خلالها مضايقات مختلفة، فغادر العراق عام 1961 إلى لبنان، ومن هناك استقر في براغ سبع سنوات، وصدر له فيها في عام 1965م، ديوان جديد سمّاه « بريد الغربة «، عاد إلى العراق في نهاية عام 1968 بدعوة رسمية من الحكومة العراقية، بعد أن أعادت له الجنسية العراقية، وخصصت له الحكومة، بعد عودته، راتباً تقاعدياً قدره 150 ديناراً في الشهر، في عام 1973 رأس الوفد العراقي إلى مؤتمر الأدباء التاسع الذي عقد في تونس. تنقل بين سوريا ،ومصر، والمغرب، والأردن، ولكنه استقر في دمشق بسوريا ونزل في ضيافة الرئيس حافظ الأسد. كرمه الرئيس «حافظ الأسد» بمنحه أعلى وسام في البلاد، وقصيدة الشاعر الجواهري (دمشق جبهة المجد» يعد ذروة من ذرا شعره ومن أفضل قصائده.
شاعر العرب الأكبر بإجماع مطلق من الشعراء العرب
لقب شاعر العرب هو لقب استحقه بجدارة في وقت مبكر في حياته الشعرية، وارتضاه له العرب اينما كان واينما كان شعره، برغم أن الساحة العربية كانت مليئة بالشعراء الكبار في عصره. فقد حصل على هذا اللقب عن جدارة تامة واجماع مطلق ويؤكد الشاعر فالح الحجية الكيلاني في كتابه الموجز في الشعر العربي – شعراء معاصرون: (ان الجواهري لهو متنبي العصر الحديث لتشابه أسلوبه بأسلوبه وقوة قصائده ومتانة شعره)، وقيل: (لم يأتِ بعد المتنبي شاعر كالجواهري)، لهذا طبع شعر الجواهري في ذهن الناشئة من كل جيل مفاهيم وقيماً شعرية إنسانية لا تزول. اما التجديد في شعره فجاء مكللا بكل قيود الفن الرفيع من وزن وقافية ولغة وأسلوب وموسيقى وجمال وأداء.
للشاعر الجواهري عدد كبير من القصائد نذكر منها: عينية الجواهري
قصيدة عينية الجواهري وهي تعد من عيون الشعر العربي الحديث واهم القصائد التي قيلت في الحسين (ع)، ومن أجمل القصائد العمودية وقد كتبت بماء الذهب في مرقد الامام الحسين بن علي مطلع القصيدة :
فِداءٌّ لَمثواكَ مِن مَضْجَعِ *** تَنَوَّرَ بالإبلَج الأروَعِ
بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنانِ *** رَوحاً، ومن مِسكِها أضوع
اماأجمل ابياتها :
كأنَّ يداً من وراءِ الضريحِ *** حمراءَ مَبتُورَةَ الإِصْبَع
تَمُدُّ إلى عالمٍ بالخُنوعِ *** والضيمِ ذي شَرقٍ مُتْرَع
تَخبَّطَ في غابةٍ أطبَقَت ***على مُذئبٍ منه أو مُسْبِع
الجواهري نائباً في مجلس النواب العراقي
اصدر سنة 1930جريدته (الفرات) ثم ألغت الحكومة امتيازها وحاول أن يعيد إصدارها ولكن من دون جدوى، فبقي من دون عمل إلى أن عُيِّنَ معلماً في أواخر سنة 1931 في مدرسة المأمونية، ثم نقل إلى ديوان الوزارة رئيساً لديوان التحرير، ومن ثم نقل إلى ثانوية البصرة، لينقل بعدها لإحدى مدارس الحلة. في أواخر عام 1936 أصدر جريدة (الانقلاب) إثر الانقلاب العسكري الذي قاده بكر صدقي لكنه سرعان مابدأ برفض التوجهات السياسية للانقلاب فحكم عليه بالسجن ثلاثة أشهر وبإيقاف الجريدة عن الصدور شهراً بعد سقوط حكومة الانقلاب غير اسم الجريدة إلى (الرأي العام)، ولم يتح لها مواصلة الصدور، فعطلت أكثر من مرة بسبب ما كان يكتب فيها من مقالات ناقدة للسياسات المتعاقبة، وكان موقفه من حركة مايس 1941 سلبياً لتعاطفها مع ألمانيا، وللتخلص من الضغوط التي واجهها لتغيير موقفه، غادر العراق مع من غادر إلى إيران، ثم عاد إلى العراق في العام نفسه ليستأنف إصدار جريدته (الرأي العام).
أنتخب نائباً في مجلس النواب العراقي في نهاية عام 1947 ولكنه استقال من عضويته فيه في نهاية كانون الثاني 1948 احتجاجاً على معاهدة بورتسموث مع بريطانيا، واستنكاراً للقمع الدموي للوثبة الشعبية التي اندلعت ضد المعاهدة واستطاعت إسقاطها بعد تقديمه الاستقالة علم بإصابة أخيه الأصغر بطلق ناري في تظاهرة الجسر الشهيرة، الذي توفى بعد عدة أيام متأثراً بجراحه، فرثاه في قصيدتين «أخي جعفر» و»يوم الشهيد»، اللتين تعدان من قمم الشعر التحريضي، وشارك في عام 1949 في مؤتمر « أنصار السلام» العالمي، الذي انعقد في بولونيا، وكان الشخصية العربية الوحيدة بين جموع اليهود الممثلة فيه، بعد اعتذار الدكتور طه حسين عن المشاركة.
القصيدة الأشهر للجواهري .. يا دجلة الخير
يا دجلة الخير من أجمل القصائد التي قالها الشاعر في الحنين للوطن والاشتياق له نلمس في هذه الأبيات المتلاحمة شوق الجواهري إلى وطنه. إلى دجلته، وإلى ضفافها واصطفاق أمواجها مطلع هذه القصيدة :
حـييتُ سـفحكِ عن بعدٍ فحَييني *** يـا دجلة الـخير، يـا أمَّ البساتين
حـييتُ سـفحَك ظـمآناً ألوذ به *** لـوذ الـحمائِم بـين الـماءِ والطين
اما أجمل ابياتها فهي قوله :
إنـي وردتُ عُـيون الـماءِ صـافية *** نَـبعاً فـنبعاً فـما كـانت لتَرْويني
وأنـت يـاقارباً تَـلوي الرياحُ بهِ *** لـيَّ الـنسائِم أطـراف الأفـانينِ
ويقول الجواهري في مجاهرة الطغاة:
قبل أن تبكي النبوغ المضاعا *** سبّ من جرّ هذه الأوضاعا
سبّ من شاء أن تموت وأمثا *** لك همّا وأن تروحوا ضياعا
سبّ من شاء أن تعيش فلولٌ *** حيث أهل البلاد تقضي جياعا
خبروني بأن عيشة قومي *** لاتساوي حذاءك اللماعا
آخر لقاء تلفازي للشاعر الكبير الجواهري
كان آخر لقاء تلفازي مع الجواهري في تلفزيون الشارقة عام 1992، وذلك في أثناء زيارته لدولة الإمارات العربية لتسلم جائزة سلطان العويس في الإنجاز الأدبي والثقافي، والتي استحدثت لكي تكون لائقة برموز الأدب والثقافة العربية وكان الجواهري أول الحائزين عليها. وفي هذا اللقاء قرأ لأول مرة قصيدته في رثاء زوجته أمونه. وسجل لقاء معه في برنامج لقاء الأسبوع، وحاوره المذيع سفيان جبر وقد بث اللقاء عشرات المرات وعلى مدى سنوات.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة