بمناسبة مرور ثلاثة عشر عاماً على رحيله
أمستردام – كريم النجار:
الكثير من البلدان العربية والاوروبية. والمتعارف عليه، في جميع البلدان المتحضرة، أو تلك التي تريد أن تؤسس نواة التقدم، أول شيء تفعله هو الحفاظ على الإرث الفني لمبدعيها، من المتوفين، أو الذين يعيشون بعطائهم المتجدد والمبدع. لقد فقد العراق الكثير من أعمال الفنانين الرواد والمعاصرين، حيث سرق مركز الفنون بالكامل، بما مخزون فيه من الأعمال النادرة لفنانينا الكبار.
ولأجل ألا يستمر نزف الإبداع بالضياع، وبنحو خاص أعمال هذا الفنان المبدع الكبير، ندعو إلى إنشاء متحف خاص بأعماله، بعد البحث عنها، واقتنائها من قبل الدولة العراقية، وهكذا نكون قد أرسينا تقليدا رائعا وحضاريا في حفظ الأثر الفني، وتخليد المبدعين، وبالوقت نفسه تكون أماكن سياحية، وثقافية، يقصدها الكثير من المهتمين والباحثين والطلبة. فكم ستكون بغداد أجمل وفيها متاحف تحفظ تراث فنانينا، موزعة ما بين الرصافة والكرخ.
كيف يترك الفنان العراقي أثرا يدل عليه، بعد هذا الكم الرافديني الضخم والمبهر الذي تركه فنانو سومر وآشور وبابل..؟
هذا السؤال الصعب، والمتحدي في آن، أجابت عليه تجارب وأعمال ثلة من الفنانين الذين شقّوا مسار عملهم الفني بإصرار وعناد وموهبة نادرة. فمن منا لا يقف بتأمل واعجاز أمام النصب الشامخ لجواد سليم، أو جدارية الفنان فائق حسن، أو تماثيل وأعمال خالد الرحال، ومحمد غني حكمت، واسماعيل فتاح الترك، وميران السعدي، ونداء كاظم، وصالح القرغولي، ورسومات محمود صبري، وحافظ الدروبي، وشاكر حسن آل سعيد، وكاظم حيدر، ومحمد مهر الدين، وضياء العزاوي، وفايق حسين، وآخرون، تركوا بصماتهم واضحة على مسار الفن التشكيلي، سواء في العراق، أو العالم العربي، وحتى العالم الرحب.
مرت في الحادي والعشرين من تموز ذكرى وفاة الفنان إسماعيل فتاح الترك (1934-2004) بعد معاناة مع المرض، حيث كان يرقد في إحدى مستشفيات دبي، وبعد أن أستفحل عليه المرض طلب نقله إلى العراق، كي يتعطر جسمه في تربة البلد التي كانت بالنسبة له هي المنتهى، وبعد أن كان يشكل منها حيوات تتوالد بين يديه. ترك الفنان كما هائلا من الأعمال (الرسم والنحت والكرافيك) توزعت بين العراق، والأردن، ولبنان، والامارات، وقطر، وايطاليا، ولندن، وهولندا.
كان للفنانون الرواد اللمسة الحقيقية في إرساء قاعدة حديثة، ومعاصرة للفنانين العراقيين، ذات النزعة المحلية والعالمية، فبدءا من التجمعات الاولى بداية خمسينيات القرن المنصرم، كان الصراع محتدما بين مزواجة الحداثة وبين الموروث، والخصوصية، والاصالة الفنية التي كانت تركز عليها جماعة بغداد للفن الحديث، وبدأ منذ ذلك الوقت هذا الصراع الذي بقي محتدما. لكن الفن يأبى أن يؤطر بإطار خاص من دون النظر إلى المنجز الحضاري الفني العالمي، مع عدم إهمال المحلي، بل تعزيزه بأفق ورؤى أوسع وأشمل.
وعلى وفق هذه الرؤية، نمت أعمال الفنان إسماعيل فتاح الترك (الرسومية والنحتية)، حيث كان يحمل هما إنسانيا، ووجدانيا كبيرا، منذ أيام دراسته في معهد الفنون الجميلة أواسط الخمسينيات، وحتى بعد اكماله دبلوم الرسم عام 1956، ومن ثم دبلوم النحت والخزف عام 1958 وتشجيع الفنان والاستاذ جواد سليم له للذهاب ببعثة دراسة فن الخزف في ايطاليا، التي عاد منها عام 1965 بعد أن أقام هناك معرضين شخصيين عامي 1963 و 1965 لفن النحت والرسم، تركت صدى طيبا في الوسط الفني، وحصد جوائز، وشهادات اعتراف بمقدرته الفنية الفائقة الجمال. ونقل أعمال معرضه الأخير إلى بغداد بالعام ذاته، والتي أثارت جدلا محتدما بين أوساط الفنانين، كونها تتعامل بقطيعة مقصودة مع منجز الرواد، أو من أعمال زملائه الفنانين الآخرين، وكونها أخذت منحا مغايرا للمألوف، باقتصاده اللوني، والشكلي، وخطوطه اللينة الواضحة، والبساطة في التنفيذ. كما أن اعماله النحتية آنذاك كانت تركز على الخشونة، والنحافة في الشكل، وأقرب ما تكون من أعمال الفنان جياكوميتي باستطالتها ووحشتها.
من هنا كان اختلافه، والذي أستمر حتى رحيله، عن مجايليه من الفنانين، حيث جمع «ثنائية الرسم والنحت، ثنائية الرجل والمرأة، ثنائية الإستلاب والزهو، البساطة والعمق السحري، الفناء والأنبعاث». فالذي يتطلع مليا لأعمال هذا الفنان سيحسده كثيرا على هذه الروحية، وعلى الاحساس الشديد بالألم الداخلي الذي جسده برسوماته، وأعماله النحتية، التي أصبحت شواهد تزين بغداد في أكثر من موضع.
اعتمدت رسوم الفنان الترك على الانفعالات، والقلق الباطني بخطوطها التعبيرية، وألوانه الإنطباعية الشديدة الحساسية. وكان الشكل الإنساني هو الماثل في أغلب أعماله، الرأس الممحو الملامح، والجسد المستطيل بخطوطه العشوائية المرنة، وصدر المرأة بامتلائه وشهوانيته، والجسد العاري بكل براءته ورقته، إضافة لولعه برسم الديك، المزهو بعرفه، وريشه الملون، والحمام بوداعته، كرمزين متناقضين. وتتكرر هذه الأشكال والثيم في رسومات اسماعيل فتاح، تارة مختزلا اللون إلى أبعد حد، حيث الاشتغال على ثنائية الأسود والأبيض، وأخرى بألوانه الصريحة الصادمة، والمبهرة بالوقت ذاته.
بالتأكيد لا يمكن الحديث عن إسماعيل فتاح الترك، بمعزل عن الإشارة لزوجته الراحلة الفنانة ليزا الترك، الألمانية التي كانت زميلته في دراسة الرسم في ايطاليا، حيث شكلا ثنائيا فنيا، أحدهم يرقب أعمال الآخر، ويتبادلان الرأي بنقاط القوة والضعف في أعمالهما، حد الاحتدام، كما أخبرني أبنهما البكر الفنان صهيل فتاح، وكان يأخذ برأيها أغلب الأحيان لما تمتلكه من وعي واحساس فني عال.
انتمى الفنان اسماعيل فتاح الترك بداية شوطه الفني عام 1956 إلى جماعة بغداد للفن الحديث، وفي أواسط الستينيات كان من مؤسسي جماعة المجددون، مع مجموعة من الفنانين ما زالت أعمالهم تؤثر بأجيال من الفنانين الذين جاءوا بعدهم. وبرغم انضمامه إلى هاتين الجماعتين اللتان لم تستمرا طويلا، إلا أن فنه كان لا يحدد بمفاهيم، أو أفكار سياسية، أو أيديولوجية، أو مفاهيم فنية ضيقة. لذا تراه صاحب أساليب متعددة في الرسم والنحت، واختلافه ظل بيناً عن الآخرين حتى رحيله.