جيوش الحضارات !

سليم مطر

ذات يوم، قبل آلاف الأعوام، وأنا لم أزل طفلة، دخل الجيش قريتنا النائية التي تقع عند أطراف الغابة. أحرقوا أشجارنا المقدسة وحطموا طواطمنا، وقاموا يتجميعنا نحن السكان المرتعبين. وقف قائد الجيش وبجانبه رجل بثياب غير اعتيادية، من الواضح أنه كاهن، وخلفه كتلة كبيرة مغطاة بقماش أبيض. خطب بنا القائد:
ـ أيها الناس قد جئناكم محررين ولسنا غزاة. لا نبتغي بكم الشر أبداً، بل كل الخير والصلاح. ها نحن نجلب لكم أعظم ما في الخليقة وأسمى ما توصلنا إليه بعد أجيال وأجيال من البحث والكفاح: الحضارة.. نعم إنها الحضارة التي لم تعرفوها من قبل..
فصرخت جدتي، وهي حكيمة القرية ووريثة جدي الراحل شيخ القرية:
ـ ما هي الحضارة أيها القائد.. أهي حيوان أم إنسان؟
ـ لا أيتها الشيخة، إنها شيء أعظم وأروع لأنها تجعل منكم شعباً جديداً راقياً تتمتعون بأنوار الإيمان بدين الحق.
ـ لكن أيها القائد لدينا ما يكفي من الإيمان والدين. فنحن منذ أن وُجِدْنا، نتوارث عن أسلافنا عبادتنا للطبيعة من أشجار وصخور وحيوانات ونيران وصواعق وأمطار، لأننا نعرف أن أرواح أجدادنا تعيش فيها.
فصرخ القائد بغضب:
ـ كلا ثم كلا، أنتم تكفرون بالآلهة وتهينون العقل وتزلون عن درب الحق. كيف لإنسان عاقل أن يعبد أرواح الأسلاف ويتجاهل الآلهة الجبارة العظيمة القادرة على كل شيء قدير. هي التي خلقت كل الموجودات، أنتم وأسلافكم وغاباتكم وحيواناتكم وصواعقكم، بل الكون بأجمعه بسماواته وأراضيه.
ثم صمت ملتفتاً إلى الكاهن الواقف جنبه، الذي شرع بالترنم والإنشاد وهو يزيح الغطاء عن الكتلة المغطاة فتكشفت عن عدة تماثيل لنساء ورجال. وإذا بالكاهن وخلفه القائد وجميع الجنود يركعون مصلين أمام الأوثان وهم يرددون التراتيل.
أصابنا الذعر، وتمسكت أنا بأذيال أمي وجدتي، والتصقنا جميعاً ببعضنا البعض مبهورين خائفين. نحن لم نواجه بكل تاريخنا مثل هذا الحشد الجبار من المصلين المنشدين بتراتيل عجيبة جعلتنا نرتجف تأثراً ووجلا. كان مشهد الأوثان مثيراً حقاً، فإن أشعة شفق الغروب النحاسية أضفت عليها حياة وتوهجا بأنوار خلابة تنبض بأرواح الآلهة الكامنة فيها. بالتدريج شرعنا نحن القرويين «الكفرة» واحدا بعد واحدٍ نركع وراء الجنود، ونحن نحاول أن نردد التراتيل نفسها للأوثان، آلهة الحضارة الجديدة.
***
بعد قرون وقرون، وقد أصبحت أنا أماً، وأمي أصبحت حكيمة بعد ان ورثت أبي شيخ القرية الراحل، دخل علينا جيش جديد بأزياء خلابة وأسلحة مرعبة. أحرقوا معبدنا وحطموا أوثان آلهتنا. تم تجميعنا نحن السكان المرتعبين، ووقف قائد الجيش وبجانبه رجل بثياب غير اعتيادية، من الواضح أنه كاهن، وخلفه كتلة كبيرة مغطاة بقماش أبيض. خطـب بنـا القائد:
ـ أيها الناس قد جئناكم محررين ولسنا غزاة. لا نبتغي بكم الشر أبدا، بل كل الخير والصلاح. ها نحن نجلب لكم أعظم ما في الخليقة وأسمى ما توصلنا إليه بعد أجيال وأجيال من البحث والكفاح: الحضارة.. نعم إنها الحضارة التي لم تعرفوها من قبل..
فصرخت أمي الحكيمة:
ـ ما هي الحضارة أيها القائد.. أهي حيوان أم إنسان؟
ـ لا أيتها الشيخة، إنها شيء أعظم وأروع لأنها تجعل منكم شعباً جديداً راقياً تتمتعون بأنوار الإيمان بدين الحق.
ـ لكن أيها القائد لدينا ما يكفي من الإيمان والدين. فنحن منذ أن وُجِدْنا، نتوارث عن أسلافنا عبادتنا للأوثان التي دمرتموها اليوم في معبدنا. لأننا نعرف أن أرواح الآلهة تعيش فيها.
فصرخ القائد بغضب:
ـ كلا ثم كلا، أنتم تكفرون بالإله وتهينون العقل وتزلون عن درب الحق. كيف لإنسان عاقل أن يعبد أوثاناً من حجر تصنعونها أنتم بأنفسكم. إنها جماد مثل أي حجر أصم، لا يأخذ ولا يعطي. انظروا كيف قمنا بتدميرها بكل سهولة من دون أن تحرك أي ساكن.
كيف يسمح لكم عقلكم تجاهل الإله الأوحد العظيم القادر على كل شيء قدير. عرشه في السماء. وهو الذي خلق كل شيء، أنتم وأوثانكم، بل الكون بأجمعه بسماواته وأراضيه.
ثم صمت ملتفتاً إلى الكاهن الواقف جنبه، الذي شرع بالترنم والإنشاد وهو يزيح الغطاء عن الكتلة المغطاة فتكشفت عن صليب كبير وعليه إنسان مصلوب. وإذا بالكاهن وخلفه القائد وجميع الجنود يركعون مصلين أمام الصليب وهم يرددون تراتيل الكاهن: أبانا الذي في السماوات..
أصابنا الذعر، وتمسكت أنا بابنتي وأمي، والتصقنا ببعضنا البعض خوفا وانبهارا، فنحن لم نواجه بكل تاريخنا مثل هذا الحشد الجبار من المصلين المنشدين بتراتيل عجيبة جعلتنا نرتجف تأثرا ووجلا. وكان مؤثراً حقاٍ مشهد الصليب الكبير وعليه ذلك الإنسان العجيب المصلوب وجراحه النازفة من ضلعه وكفيه. أشعة شفق الغروب النحاسية أضفت عليه حياة وتوهجا بأنوار خلابة تنبض بروح الإله الأوحد الكامنة فيه. بالتدريج شرعنا نحن القرويين الكفرة عبدة الأوثان، واحدا بعد الآخر نركع وراء الجنود، ونحن نحاول أن نردد نفس التراتيل لإله الحضارة الجديدة: أبانا الذي في السماوات. بعد قرون وقرون، وقد أصبحت أنا بدوري جدة حكيمة وورثت زوجي شيخ القرية الراحل، دخل علينا جيش جديد بأزياء باهرة وأسلحة حديدية مذهلة، فجر كنيستنا وأعدم القسيس وجنود الملك. تم تجميعنا ونحن مرتعبون، ووقف قائد الجيش وفوقه يخفق علم الثورة وبجانبه رجل بثياب غير عسكرية من الواضح أنه إنسان مثقف. وخلف المثقف هنالك كتلة كبيرة مغطاة بقماش أبيض. خطب بنا القائد:
ـ أيها الناس قد جئناكم محررين ولسنا غزاة. لا نبتغي بكم الشر أبداً، بل كل الخير والصلاح. ها نحن نجلب لكم أعظم ما في الخليقة وأسمى ما توصلنا إليه بعد أجيال وأجيال من البحث والكفاح: الحضارة.. نعم إنها الحضارة التي لم تعرفوها من قبل..
فصرخت أنا:
ـ ما هي الحضارة أيها القائد.. أهي حيوان أم إنسان؟
ـ لا أيتها الشيخة، إنها شيء أعظم وأروع لأنها تجعل منكم شعباً جديداً راقياً تتمتعون بأنوار الإيمان بعقيدة الحق.
ـ لكن أيها القائد لدينا ما يكفي من الإيمان والدين. فنحن منذ أن وُجِدْنا، نتوارث عن أسلافنا عبادتنا للرب المصلوب، لأننا نعرف أن روح الإله تعيش فيه.
فصرخ القائد بغضب:
ـ كلا ثم كلا، أنتم تكفرون بحضارة العلم، وتهينون العقل وتزلون عن درب التقدم والرقي. كيف لإنسان عاقل أن يعبد مثل هذا الخشب وهذا الحجر الذي تسمونه رباً، وتتجاهلون أنوار العلم، الذي أثبت أنه أعظم إله حقيقي وواقعي نصنعه نحن البشر بإرادتنا وعقلنا. العلم وحده القادر على كل شيء قدير. هو الذي سيصنع لكم الخلود ويجنبكم كل المخاطر والأمراض ويمنحكم الاكتفاء والسلام. نعم العلم هو الذي سيخلق لكم الجنة على الأرض.
ثم صمت ملتفتاً إلى المثقف الواقف جنبه، الذي شرع بالترنم والإنشاد وهو يزيح الغطاء عن الكتلة المغطاة فتكشفت عن مسلة كبيرة مكتوب عليها «أنوار العلم وجنان التقدم «. وإذا بالمثقف وخلفه القائد وجميع الجنود يقفون منشدين أمام المسلة:
أبانا الذي في المختبرات، وأمنا التي في المصانع..
أصابنا الذعر وتمسكت أنا بابنتي وحفيدتي، والتصقنا ببعضنا البعض خوفاً وانبهاراً، فنحن لم نواجه بكل تاريخنا مثل هذا الحشد الجبار من المصلين المنشدين بتراتيل عجيبة جعلتنا نرتجف تأثراً ووجلا. وكان مشهد المسلة وعلم الثورة الخفاق مثيرين حقاً، فإن أشعة شفق الغروب النحاسية أضفت عليهما حياة وتوهجاً بأنوار خلابة تنبض بروح آلهة العلم والتقدم الكامنة فيهما. بالتدريج شرعنا نحن القرويين المسيحيين البدائيين المتخلفين، واحدا بعد واحدٍ نركع وراء الجنود، ونحن نحاول أن نردد التراتيل نفسها لإله الحضارة الجديدة:
أبانا الذي في المختبرات، وأمنا التي في المصانع..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة