خيط النمل

ابتسام يوسف الطاهر

«ياالهي ..ربما اصبت بعدوى الثورة والثوار! مرض الشك الدائم الملازم للثوار، ما ان تصبح ثورياً حتى تصاب بهذه العدوى..الكل يتآمر ضدك، وحين تكون لديك السلطة والسلاح، ولكي تحافظ على وجودك تعلن بداية قطع دابر المؤامرة، وتبدأ حملة التصفيات بالمنشقين من ثم تتحقق اسطورة الثورة».
لم تعجبه تلك الكلمات من الرواية التي كان يقرأها، لكنه سجلها على ورقة استقطعها من دفتر ابنه الصغير. وفكر ان يضمها لخاطرة، او ربما هي لمقال كتبه منذ ايام. او ربما سيكتب عن تلك الرواية نقداً، فكثير من اصحابه يعجبهم رأيه ببعض مايقرأه من كتب. وما الفائدة انه يكتب منذ قرون، وحين تضيق رفوف كتبه بتلك الاوراق يصنع منها صواريخ، او طائرات لأبنه ويقذفانها من فوق السطح..
بعض الروائيين يختارون البطل او الشخصية الرئيسة للرواية، ليمثل انموذجاً سلبياً، او المرفوض اجتماعياً، او مبدئياً، ليكون عبرة اكثر منه قدوة. انموذج لمن نرثي له سيئاته، وانهزاميته، وانانيته، وجبنه، وغيرها من الصفات التي نرفضها.. يختارونها ربما لا حبا فيها، وإنما هو نوع من النقد الذاتي، او ليتخلصوا من حمل ثقيل. فتبدو روايتهم متخيلة لشخوص نعرفها في الواقع.. كما لو هي وسيلة للاعتراف، كما هو لدى المسيحيين الذين يعترفون امام القس الذي يسمع لهم، من ثم يبارك لهم ليمحو عنهم خطاياهم، فيولدوا من جديد بلا خطيئة! ويخرجون نضافاً خفافاً. الروائيون هؤلاء يتخذون من جمهور القراء قساً ليعترفوا له بنحو غير مباشر ومبطن. اعجبته تلك الأفكار، او التحليل النقدي، ولكنه سخر من فكرة كتابتها. فما الفائدة!
ترك جسده ينزلق على بلاط الغرفة لينعم ببرودة البلاط (الكاشي)، فلا الاريكة، ولا السرير وجد فيهما بعض الراحة لا للنوم، ولا الجلوس، الحر يجعل مكان التقاء جسده بفراشهما يغرق بالعرق، فالمروحة لا تكفي لتجعل جو الغرفة معقولا، او محتملا، والمبردة بضجيجها الناعم، والرطوبة المنبعثة منها تزيد من عدم ارتياحه. اتكأ على الاريكة محاولا ان يعود للكتاب الذي كان يقرأه.
مرت على ذراعه نملة مسرعة تبحث عن الخيط الذي يشبه خط الاستواء ليدلها على رفاقها او بيتها. فمرر اصبعه على تلك الحشرة النشطة ليوقف حركتها الى الابد.. واختلط لونها بذرات الغبار وحبيبات الكاشي البنية والسوداء والبيضاء.. فانتبه الى ان هناك الواناً خضراً، واخرى برتقالية، وحمراً، لكنها ضاعت بين زحمة الوان قطع الاجر الصغيرة.
لم يحتفل بمصير النملة الذي قرره تواً. في تلك اللحظة شعر انه لا يختلف عن محمد جعفر في الوجه الاخر لفؤاد التكرلي، فنحى الكتاب جانباً .. وتمدد على ظهره متأملا السقف والمروحة في وسطه تأز، واجنحتها تطلق صوتا يشبه صوت مروحة الهليكوبتر الحربية.»ماذا حل ببوذا وجماعته؟ منذ ايام كنت مثلهم تحفل بكل روح مهما صغر حجمها. كنت معجباً بهم بكل احترام، وتحاول التشبه بهم، حتى قبل ان تقطع المسافات مع كازنتزاكي في طريقه الى غريكو». كان مسروراً مبتهجاً كما لو هو ينجز امراً جللاً، حين استدل على طريق الانسان، طريق يجمع بين فلسفة نيتشة، وحماس لينين، وسمو بوذا، وصبر الفلاحين وصيادي السمك والقساوسة. ذلك هو طريق الانسان. هل هو حقاً اثمن رأس مال؟ هل حقاً هو المخلوق الاعلى والاهم، وكل المخلوقات عليها ان تخضع له! لنزواته ورغباته وتهيئ له كل وسائل الراحة والفرح والانتصار! حتى لو كان ذلك من جلدها ولحمها! هو المتعالي القادر على سحق نملة سببت له بعض الازعاج، وهي تمر عبر ذراعه التي امتدت في طريقها!
(الانسان اكثر المخلوقات قبحاً وخيانة) عن أي انسان يحكي؟ هناك كائنات بشرية تفضل عليها القطط والكلاب الوفية. حتى هنا تظهر انانية الانسان وحبه لذاته. لابد ان يستمتع بصراخه على القطة، وربما ضربها ايضا، والكلاب لابد ان تخضع لمزاجهم لكي يحبوها. منذ ايام رأى اطفالا يلاحقون قطة كانت مرعوبة، ومتورطة بالسير في ذلك الزقاق المزدحم بهم، فقد صغرت البيوت، وكثرت أعدادهم، فلابد من انتشارهم في الشوارع والحارات ليلعبوا. ومن لعبهم المفضل هو ملاحقتهم للحيوانات تلك، وضربها بقسوة تجعلهم يتضاحكون مبتهجين! ورأى مثلهم وربما هم أنفسهم يتراكضون خلف طفل غريب عنهم، ويرجمونه بالحجارة بلا سبب، سوى انه كان بملابس نظيفة ومرتبة!
عن أي إنسان تحكي؟هذا الذي تشبّع دمه بالحقد والكره؟ تنطلق منه الشتائم والدعوات بالفناء، والعذاب حتى لأقرب الناس له ان خالفوه؟. وشتم زعيق بعض الدجالين عبر مكبرات الصوت المتداخلة الصارخة بالكره، وعذاب الجحيم، والقبر، واللعنات تصب على من اختلف معهم!
«هؤلاء هم المساكين..» قالت له يوماً «فمن نظف قلبه ولسانه، وتسامت روحه، واحب مخلوقات الله كلها حتى النملة ذلك هو الإنسان السعيد». علت وجهه ابتسامة وصار يخط على الورقة تلك كلمات لاعلاقة لها بما فكر فيه تواً.
انا وحدي..كالماء..بلا شوائب كالمطر المقطر من سماء
انا وحدي ابحث عن كتف للبكاء..عن أصدقاء
شتلات ورد في حدائق الغرباء
لا أراهم ولا يروني..ولا يسمعون الشوق المؤرق للنداء
انا وحدي..غصن مقطوع بلا حياة، في كأس بلا ماء
يشرئب العنق منه للشمس للدفء للضياء
لا دمع يبل الريق منه .. ولا شمس ولا مطر ولا هواء
بغداد صيف 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة