القص القصير جداً وملاءمة روح العصر (نصوص مهجّرة) أنموذجاً

علوان السلمان

…بمراجعة المراحل الاجناسية للقص القصير يجرنا التفكير والتذكر صوب الحكاية فالمقامة والمقالة فالقصة القصيرة والقصيرة جدا (الومضة)..التي كانت نتيجة حتمية لحركة التجريب في السبعينيات من القرن العشرين..والتي افرزتها الذائقة الابداعية كشكل من اشكال الحداثة التي تحاول ملاءمة روح العصر باعتماد تقنية الانزياح والتكثيف والايحاء واستنطاق الواقع وموجوداته..منطلقة من اسباب داخلية وخارجية يأتي في مقدمتها ترجمة فتحي العشري لـ (انفعالات) ناتالي ساروت وحركة الحد الادنى التي برزت في الولايات المتحدة ونادت (بكتابة مختصرة لحياة مختصرة) بحكم التحول الفكري والفني..فقامت نصوصها على اساس جمالي قوامه اللمحة التأملية المنبثقة من الصور التخييلية..فكانت جنساً سردياً فاعلا ومؤسسا لشرعيته على الاقتصاد في اللغة وتجاوز المواثيق السردية بتأسيس كينونتها على فن الحذف بصفته مساحة جمالية مستفزة وآلية لاتساع مديات النص وتعميقه..وبلاغة القول والغور في الترميز والمراوغة الذي يسهم في نبش الخزانة الفكرية للمستهلك(المتلقي) والكشف عن خزينه المعرفي لملء بياضاتها وسد ثقويها بتأثيث فضاءاتها.. والتكثيف والايجاز الجملي والرمز والتخييل بلغة تلغرافية تحتفي بالمضمر والمعنى المختبيء بين طيات التراكيب الجملية المتجاوزة للمألوف والمسايرة لحركة العصر الذي وسم بعصر السرعة..لخلق نص مختف بالمضمر والبياضات الداعمة للتأويل من خلال تمرده على احادية المعنى..مع تميزه بضربة اسلوبية ادهاشية وتأسيس على اللغة الايحائية المتأتية من علاقتها بالفكرة واختيار الالفاظ الموحية والمكتنزة المعاني والدلالات والاشارات والرموز مع اقتصاد لغوي بصفتها سردية اختزالية ونهاية مفاجئة تشكل بؤرة العناصر البنائية والجمالية..
وبتفكيك نصوص المجموعة القصصية (نصوص مهجرة) التي انتجتها ذهنية القاص طالب زعيان واسهمت دار الروسم في نشرها وانتشارها/ 2017..كونها تعتمد نمطاً فنيا متجاوزاٍ للمألوف.. يقوم على اساس بنائي يتخذ من التكثيف والترميز والايجاز والاقتصاد في اللغة مع اعتماد المفارقة الاسلوبية المحطمة للتوقع..منهجاً واعياً..متسامياً يحقق بعده الفني بالانزياح التركيبي والدلالي..فضلا عن انها تتخذ انساقا متعددة تسعى الى التوليف ما بين ابعاد مختلفة(سايكولوجية وسوسيولوجية ورومانسية).. وهي تتنفس بيئتها المتشظية والمغتربة والاجتماعية النابضة بالحياة المبتسمة والحزينة النامية في واقعها ابتداء من العنوان العتبة الدلالية الموجهة لفعل القراءة من جهة والناقلة للمتلقي من حيز الواقع لحيز التخييل..
(أمنية كانت ان يموت ويدفن هنا..تحققت نصف امنيته..ما زالوا يبحثون عن جثته) ص15..
(كأن المرأة التي رآها في الدائرة هذا اليوم تشبهها..سارع الى هندمة نفسه قدر استطاعته ليقابلها..لم تكن الا موظفة جديدة ..لكنه يسألها باصرار هل انت هي؟..كان على اصدقائه ان يسألوها بدلا عنه لانهم يرونه يصر على هذا السؤال حتى بعد ان ضعف بصره..أما(هي) فكانت زوجته التي رحلت بانفجار قديم..ينتظرها ان تعود..) ص15..
فالقاص يؤسس كينونة النص على بلاغة القول كون البلاغة(فن الايجاز)..وقول النفري الصوفي(كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤية)..وهو يزاوج بين الحسي والذهني لخلق العمق التصويري المشبع بالدهشة من خلال وحدة التعبير عن كوامن الوجد فيركز على المعنى باعتماد الايجاز المكتنز بالرمز من اجل اغنائه والتعبير عن القيم الاجتماعية..فضلا عن اعتماده التضاد لخلق دينامية المشهد الذي يقوم على سردية الرؤية في اطارها البنيوي فيرتقي المنتج بالمفردة الى مستواها الدلالي لاحداث المتعة الفنية من خلال تركيزه على العناصر الشعورية والنفسية واظهار الذات في جدليتها مع الواقع..
(التصقت عيناه بمرايا سيارته التاكسي وهو يتابع المرأة التي ركبت معه تكشف عن شعرها ثم تمسد عنقها بيدها نازلة على صدرها الناصع البياض وهي تبدأ بفتح الزر الاول لقميصها..نظرت اليه مبتسمة..نازل هنا شكراً لك..حين هم أن يسألها الاجرة سبقته: العرض ليس مجاناً..) ص76..
فالنص يسير في مستويين اسلوبيين متوازيين: اولهما اسلوبية منفعلة ومتفاعلة والحدث اليومي..وثانيهما اسلوبية استدعاء الواقع المأزوم بخرابه الممتد على مساحة الزمن الاحتلالي.. باستعمال التسلسل السريع للجمل السردية المكثفة التي تتناسب والحالة النفسية القلقة للشخصية المتكئة على الفعل(التصق/يتابع/ركبت/ تكشف/تمسد/تبدأ/ يسالها/) الذي يسهم في تسريع السرد مع اسقاط حروف العطف وتحرير اللغة من نثريتها وشحنها بعمق شعري وصفات حركية خالقة للانزياحات السياقية ..باعتماد الجمل المكثفة..الموجزة التي تتشكل على وفق هندسية بنائية عميقة تعتمد مجسات ابداعية باستعمال التكنيك الفني لبناء ومضته منحصرا في( اللغة والمشهد والرمز والمفارقة التصويرية والضربة الاسلوبية المفاجئة..)..مع اعتماد قوة العاطفة وتكثيف الرؤية بتوظيف الالفاظ المجازية المحققة لتقانة الانزياح وخلق نص ذي بنية مركزة مع وحدة عضوية متداخلة في الفعل الشعوري والاستدلالي والانفعالي الشعوري..
(دخل مسرعاً حاملا اوراق معاملته التي انهكته كثيراً.. وهي توشك ان تنتهي..فقط كان ينقصها ختم أخير..القاها بيده المرتعشة امام الموظف المختص ..قلبها وعيناه تتابعان يديه اللتين لم تكونا عند حسن ظنه..لحظات صمت ثم قال:معاملتك تمت… ) ص45
فالقاص ينسج عوالمه المحققة لموقف انساني..بتتابع الحدث ومشاهده مع تكثيف الاحساس في صور حركية داخل بنية سردية تشكلت من جزئيات التجربة الحياتية فاختصر المسافات بذاتية متفاعلة دينامياً والموضوع..نتيجة امتلاكه قدرة اتصالية تسبح في احضان الواقع الذي تربطه معه علاقات انسانية متحركة باعتماد الاختزال في الوصف بلغة شاعرية الحس متجاوزة حدود الزمكانية.. متدفقة بعذوبة مموسقة بحركة الحياة الاليفة لتحقيق التماهي.. فضلا عن توظيفه إستراتيجية الحذف التي تؤسس كينونة النص .. بصفتها(مساحة جمالية تستدعي التأويل)..وآلية لاتساع مديات النص وتعميقه من خلال استدعاء المستهلك(المتلقي/ لملىء بياضاته وتأثيثها المتفاعل وفضاء النص من خلال الخروج عن صمته الاستهلاكي ومن ثم استنطاق رموزه والوقوف على الدفق الفكري والوجداني للمنتج..
وبذلك قدم القاص نصوصاً مركزة.. مختزلة..متدفقة بانسيابية تنم عن وعي سردي عميق وعفوية نافذة الى الذاكرة..باعتماد نسقين متداخلين من السرد:اولهما نسق موضوعي..وثانيهما نسق فني..عبر جمل مكثفة.. موجزة..تصور عالماً تتسع دلالته وتتعدد بنياته..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة