يتعرض المرء الى الظلم والغبن والتهميش سواء من قبل المجتمع أو غيره .. يراوده شعور أو اعتقاد بأنه في المكان والزمان الخطأ .
المصادفة وحدها هي التي جمعتني بأحد الموظفين المثاليين الذي أحيل الى التقاعد بناءً على طلبه على الرغم من اقترابه من السن القانونية إلا أنه أبى إلا أن يختار أبغض الحلال.. وهو الطلاق من الوظيفة، كان…موظفاً مثالياً نزيهاً متفانياً مبدعاًطيباً متواضعاً محبوباً من الجميع، يعمل فيوزارة انهكتها تراكمات ومخلفات العقود الماضية وينخر النفاق جميع مفاصلها !
سألته: ما الذي جعلك تستعجل الرحيل عن الوظيفة ولم يتبقَ لك إلا القليل لتكملة المشوار ؟
أجابني: وصلت الى قناعة مفادها بأني لاأستطيع الاستمرارفي ظل أجواء مليئة بالهواء الفاسد.. وتقاليد عمل هجينة.. غير قادر على الانسجام معها، لا يتركوني في حالي.. إن ابتعدت عنهم “مشكلة”، وإن اقتربت منهم فالمشكلة أكبر، يتملكني شعور بأني سأخسر الحرب أمام هؤلاء بعد كل الذي قدمته من تضحيات لأني لا أملك أدواتهم !
قلت له : إذاً ما لذي تعلمته من خبرتك الطويلة ؟ قال: إن الظلم لا يدوم !
قلت له : كيف ؟ أجابني : هناك حرب أزلية بين الخير والشر، مهما استخدم الشر أدواته الخبيثة…فالخير في النهاية هو الذي ينتصر.. لأن الله مع الخير.. والشر مع الشيطان!
قلت له : من أين أتيت بهذه الحكمة ؟ قال : من كتاب الله سبحانه وتجارب الأولين !
قلت له : وهل هذا كافٍ ؟
قال : “ابني شوف .. فد يوم تعرضت الى ضغوطات كبيرة في العمل… وكنت أنوي ترك الوظيفة والخدمة والجلوس في البيت بسبب حرب شعواء خفية شنها عليّ مسؤولي في العمل لاأعرف سببها لكن أكيد هو بسبب (المنافقين والأفاقين) … والعُرف السائد عندنا هو أن..المسؤول الكبير عندما يكون راضياً عنك.. فالحاشيةالمحيطة به يتملقونك ويمقتونك في آن واحد …. أما إذا غضب عليك .. فيا ساتر استر .. فأن هؤلاء يتحولون الى (….) مسعورة تحاول نهش لحمك !”وأضاف : في البيت حاولت أن أشغل نفسي بقراءة كتاب عسى أن أخفف من الانزعاج الذي أصابني…وبينما كنت أقلب صفحات أحد الكتب توقفت متأملاَ.. قولاً للزعيم الهندي الراحل غاندي نصه:”في البداية يتجاهلونك… ثم يسخرون منك.. ثم يحاربونك…ثم تنتصر عليهم !” ومنذ ذلك اليوم وأنا أضع هذه الحكمة في لوحة مؤطرة تحتل مكاناًمتميزاً في مكتبي… أعود إليها كلما تعرضت في وظيفتي الى مثل هذه الأشياء… وأردف: لقد حرموني من الإيفادات والامتيازات والحوافز والمخصصات… حاربوني بكل شي !
قلت له : وكيف كنت تواجه كل هذه الأشياء … ؟ قال بالصبر والضحك !
قلت له : كيف ذلك وأنت تتعرض الى كل هذا الظلم ؟
أجابني باللهجة الشعبية : “ابني هذولة مساكين… (مرضى) … والمريض معذور ولا حرج عليه،لاتباوع لابسين بدلات ويتمنطقون براسك… تره عدهم عُقد وتراكمات أجتماعية ونفسية ، وسبحانه تعالى ذكر بمحكم كتابه وأكد على ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) !”
والتفت إلي وقال: “تعال ابني.. نشرب فد شاي يكعد الراس وزن.. وخلي نسمع شوية عزيز علي “…وطلب من صاحب المقهى تشغيل جهازالتسجيل الصوتي القديم (أبو البكرة)…. وماهي إلا لحظات حتى طغى صوت المنلوجست الراحل على المكان وهو ينشد :
كل حال يزول … متظل الدنيا بفد حال
تتحول من حال الحال… هذا دوام الحال محال
هالعالم مليان اسرار… اسرار تحير الأفكار
دولاب الدنيا الدوار… صاعد نازل باستمرار
وبكل لحظة وكل مشوار.. يقبل ويودع زوار
صغار ..كبار… أطفال يصيرون رجال ..
ورجال يصيرون أطفال… ورجال يظلون أطفال ..
ورجال أنصاف رجال … وعلى هالمنوال …
• ضوء
الحال .. يزول بخيره وشره ..!
عاصم جهاد