د. عمار علي حسن
مع تولي الأمير حمد بن خليفة الحكم في قطر عام 1995، سعى إلى تثبيت دعائم حكمه الذي كان يبدو ضعيفاً وغير مستقر، ولجأ في ذلك إلى تبني سياسات تعتمد، من ضمن محاورها، على معاداة محيطه العربي، ونفخ بذور الفتنة من خلال قنوات إعلامية ممثلة في فضائية «الجزيرة» أو تنظيمات دينية رأى فيها سنداً لحكمه مثل جماعة الإخوان المسلمين، واستغرق هذا الأمر عدة سنوات حتى اندلاع ما يُسمى بـ «الثورات أو الانتفاضات العربية» في عام 2011، والتي ركبتها قطر زاعمة أنها لعبت دوراً كبيراً في انطلاقها وإلهام صانعيها.
وفي خلال السنوات الأخيرة، جنح بالدوحة تفكيرها إلى محاولة توسيع دورها في المنطقة، مستغلة الظروف الصعبة التي يمر بها محيطها العربي، أو مراهنة على سقوط هذا المحيط في فوضى عارمة، حيث الاضطرابات السياسية والصراعات الاجتماعية على خلفيات طائفية أو عشائرية أو بفعل وتدبير التنظيمات الإرهابية والتكفيرية، التي توظف الدين في تفكيك الدول.
مناورات مستمرة
تصرفت الدوحة، على مدار العشرين عاماً الماضية وتحديداً بعد تولي الأمير حمد بن خليفة الحكم ومن بعده نجله الأمير تميم، على أنها في مأمن من العقاب، معولة تارة على أن من حولها اعتادوا التعامل مع نهجها هذا وألِفُوه، وأنهم عاجزون عن ردعها، وتارة أخرى على أنها محتمية بالولايات المتحدة التي وظفت قطر كهمزة وصل مع بعض الجماعات والتنظيمات المتطرفة، علاوة على المصالح التجارية والعسكرية التقليدية بين الطرفين.
وفي الأزمة الحالية، ربما لم تتوقع حكومة قطر أن تُقدم السعودية والإمارات والبحرين ومعها مصر، إلى جانب بعض الدول الأخرى، على قطع العلاقات الدبلوماسية معها، وتزيد على هذا بإجراءات للمقاطعة بحراً وبراً وجواً، ثم تفكر الآن في تصعيد وتشديد الإجراءات، بعد الرد القطري السلبي على «قائمة مطالب» الدول المقاطعة لها.
وعلى مدار السنوات الماضية، تصرفت الدوحة على أنها تملك هامشاً كبيراً من المناورة، وأن بوسعها الاستمرار في اللعب على حبال التناقضات بين مواقف الدول ومصالحها، وأنها ستنجو على الدوام من المساءلة أو الحساب أو العقاب، متدثرة بألوان من الدعاية السياسية، والعلاقات الخفية، والرهان على مصالح الغرب معها، وعلى شبكة العلاقات القوية التي نسجتها مع جماعات «الإسلام السياسي» بشتى دوافعها وتنظيماتها وتوجهاتها، ثم أخيراً على علاقات المتنامية مع قوتين إقليميتين هما تركيا وإيران.
خيارات متوقعة
أما وأن العقاب الأولي أو المبدئي قد حدث بالفعل ضد قطر من جانب الدول المقاطعة لها، وهناك تفكير في عقاب جديد، على عكس ما اعتقدت الدوحة أو تمنت، فإن قطر معنية الآن أكثر من أي وقت مضى باستعراض خياراتها تحت ضغط أزمة لم تشهدها منذ إعلان قيام الدولة القطرية في عام 1971 وحتى الآن.
في البداية، راهن البعض على «تراجع قطر»، وهو ما كان يعني إقدام الدوحة، ولو بعد حين، على اتخاذ كل الإجراءات التي تطمئن دول الخليج العربية، وتعطي فرصة لهذه الدول في اختبار نوايا الدوحة، وانتقال وعودها من مجرد كلام، كما جرى في المرات السابقة، إلى إجراءات حاسمة على الأرض، بما في ذلك إحداث تغيير في بنية وتوجهات السلطة القطرية يتم بمقتضاه التأثير في سياسات وأفكار مهندسي المشروع القطري الراهن، أو بمعنى أدق أولئك الذين يمثلون همزة وصل بين قطر وقوى إقليمية وعالمية تحرك الدوحة وتستخدمها «حصان طروادة» لخدمة مصالحها.
ويتطلب هذا فك الارتباط مع التنظيمات المتطرفة، وتغيير حقيقي في توجهات السياسة الخارجية القطرية إقليمياً ودولياً، على أن تشهد الدول التي تتضرر من السياسات القطرية بأن ثمة تغيراً فارقاً في سياسات قطر وفي توجهات إعلامها. وإذا كانت الدوحة تبدي، حتى الآن، عناداً في الاستجابة للمطالب الـ 13 للدول المقاطعة لها، فإن إجراءات عقابية أشد قد تدفعها إلى الرضوخ في النهاية، لاسيما إن استمر نزيف الاقتصاد، وشعور القطريين بالعزلة، أو بدأت دول خارجية كبرى تمارس ضغوطاً أشد على الدوحة من أجل التراجع قبل انفجار الموقف. لكن قطر لم تتراجع حتى الآن، ويبدو من تصرفاتها السياسية والإعلامية والاقتصادية أنها استعدت لعناد طويل.
وكان هناك اتجاه آخر راهن على سيناريو بدا متفائلاً وهو «الاستغاثة»، بمعنى أن تكشف الدوحة كل أوراقها للقيادات السياسية في العالم العربي، خصوصاً دول الخليج العربية، وتبين حجم تورطها في المسار الذي توغلت فيه إلى هذا الحد المنبوذ، وأنها لم يعد بمقدورها العودة بمفردها وإلا كلفها الكثير. وتكون قطر هنا أشبه بفرد اندمج في مجموعات غير شرعية، وصار له دور ملموس، وعرف أسراراً، ويكون من الصعب عليه الانسحاب والاعتزال، وإلا عُوقب. في هذه الحالة تطلب الأسرة الحاكمة في قطر، بعد أن تصارح نفسها، مساندة ومساعدة من الدول الخليجية والعربية حتى يكون بوسعها أن تعود، بعد أن تم توظيفها على مدار أكثر من 20 سنة في تبني سياسات لا علاقة لها بمصالح الشعب القطري. بيد أن هذا السيناريو بات مستبعداً، فقد انقضت المهلة الأساسية والإضافية التي تم منحها لقطر لتستجيب لمطالب دول الخليج الثلاث ومعها مصر، لكن الانتظار انتهى برد قطري «سلبي ويفتقر لأي مضمون»، حسب وصف وزير الخارجية المصري سامح شكري في المؤتمر الصحفي الذي عقده وزراء خارجية الدول المقاطعة يوم 5 يوليو الجاري في القاهرة.
إذن، يتبقى أمام قطر الآن ثلاثة خيارات للتعامل مع أزمتها الراهنة، وتتمثل في التالي:
1. التسكين: هنا تراهن الدوحة على الزمن في تخفيف الضغط والخناق، وحلحلة الموقف الخليجي الأخير، والاستعانة بأطراف إقليمية، وعلى رأسها تركيا، من أجل حماية عسكرية، وإيران، من أجل مساعدة اقتصادية، وكذلك أطراف دولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، طمعاً في ضغوط، مع اتخاذ إجراءات من طرف واحد لطمأنة الدول المتضررة من السياسة القطرية الحالية. وهنا تحلم قطر بتمييع الموقف بمرور الوقت، لتعود إلى سابق عهدها في ممارسة التناقض بين القول والفعل، ومد جسور خفية مع تنظيمات محظورة في المنطقة، والحلم بتفكك إقليمي تخرج منه رابحة، بغض النظر عن مستوى هذا الربح ووقته.
2. التمادي: حيث العناد والإصرار على انتهاج سياسات ترى السعودية والإمارات والبحرين ومصر، أنها تشق الصف العربي، خصوصاً الخليجي، وتعادي مصالح كل الدول، في ظل العديد من الاتهامات الموجهة لقطر؛ ومنها دعم جماعة الإخوان المسلمين، والتحالف مع إيران التي تستهدف دول الخليج العربية. وهذا يعني الذهاب إلى مدى أبعد في الخصومة مع دول مجلس التعاون الخليجي، والارتماء أكثر في حضن طهران، وتوطيد علاقة أشد مع أنقرة، واستمرار العلاقة مع جماعات «الإسلام السياسي» بما فيها من تنظيمات متطرفة تنتشر في أكثر من بلد عربي، والرهان على رفض الدول الكبرى للتدخل العسكري، ومحاولة إيجاد ذريعة دائمة لتخويف القطريين على مستقبل بلدهم، وإقناعهم بأنهم مستهدفون، ولا بديل أمامهم عن الالتفاف حول قيادتهم السياسية، والرضا عن رهاناتها وخياراتها وعلاقاتها.
3- التصعيد: أي أن تقوم الدوحة بتأجيج الصراع، وذلك من خلال تسريع خطوات الانتقام من الجميع، فتزيد في تمويلها لكيانات خارجة عن القانون، وتوجه بعضها للقيام بعمليات داخل الدول المقاطعة لها، وتُزكي من الصراعات الطائفية، أملاً في إحداث فوضى واضطرابات في دول عربية، رغبةً في تصدعها وتفككها بما قد يؤدي إلى توسع نفوذ قطر في محيطها الجغرافي والسياسي، كما تتوهم الإدارة القطرية الحالية، وفق ما يمليه عليها طموحها في لعب دور أكبر من إمكانيات قطر وقدراتها.
وقد يأخذ التصعيد شكلاً آخر يتمثل في تمكين أكبر لجماعة الإخوان وأتباعها من القرار القطري، بزيادة تغلغلها في بنية السلطة هناك، وتوظيف إمكانياتها وشبكاتها في خدمة الدوحة، التي يمكن التعامل معها، في هذه الحالة، على أنها «الوطن البديل» للإخوان. ومثل هذا الوضع، الذي يعني هروباً قطرياً إلى الخلف، يشكل تهديداً مباشراً ليس لدول الخليج العربية فقط، بما في ذلك التي لم تشارك في مقاطعة قطر، وهي الكويت وسلطة عمان، بل أيضاً للعالم العربي برمته.
ختاماً، لا شك أن الدول المقاطعة لقطر تدرك جيداً تداعيات المسارين الثاني والثالث، وستعمل على مواجهتهما ودحضهما، حيث تملك هذه الدول أوراق ضغط أخرى، ربما لم تكن بعيدة عن اجتماع قادة الاستخبارات في الدول المقاطعة لقطر والذي سبق اجتماع وزراء خارجية السعودية والإمارات ومصر والبحرين في القاهرة يوم 5 يوليو الجاري. وبالتالي يُتوقع أن تطول الأزمة الحالية، وأن يكون ثمة تصعيد تدريجي ضد الدوحة سيؤدي إلى عزلتها في ظل تعنتها وعزمها الاستمرار في سياساتها الراهنة غير المقبولة، وهو ما بدا واضحاً في تأكيد وزراء الخارجية على أن المطالب التي قُدمت لقطر لا تحتمل المساومات والتسويف، وإعلانهم استمرار المقاطعة السياسية والاقتصادية للدوحة، بل واتخاذ خطوات إضافية ضدها.
*مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة