رموز الحلة.. سيرة مدينة.. سيرة شخوص

علوان السلمان

تعد التراجم والسير بانواعها(الذاتية والغيرية) من الاجناس الادبية النثرية المؤثرة مجتمعيا والتي تفرض الترتيب الزمني للاحداث بمنطقية تكشف عن وعي منتج لها.. وفي هذا السياق يفترض الالمام بمطلق المراحل الحدثية والتركيز على الاهم فالمهم مما يندرج ضمن السلم السيري..فضلا عن التفكير في الاسلوب الذي يمكن توظيفه في صياغتها والاحاطة بها..لتقديم تجربة ابداعية تعيد انتاج حياة شخصية تشغل حيزها المؤثر بما تقدمه من ابداع يستفز الذاكرة فيترك بصمته المؤثرة بفعله وتفاعله مع الذات الجمعي الآخر..هذا يعني ان السيرة الغيرية فن ادبي يتناول سيرة حياة منتج.. مركزاعلى تسجيل منجزه وتحليله والتعليق عليه بقصد الافادة المعرفية وتحقيق المتعة المنبثقة من ثنايا التجربة التي تعتمد البناء الفني واضفاء عنصر التشويق وجودة السرد ودقته بخيال مقيد.. لذا فهي ليست تاريخا لحياة الفرد بالمعنى الدقيق بل هي جزء من التاريخ الانساني..
والسيرة تصنف من حيث مضمونها الى سيرة تاريخية وادبية وفلسفية.. الغاية من كتابتها نقل التجربة من الذات الى الموضوع والدعوة للمشاركة في عوالمها والوقوف على موقف صاحبها من الحياة والواقع..وابراز المقدرة الفنية والفكرية عنده..
لذا فهي نص يتميز بالموضوعية ويكشف عن جرأة كاتبها في عرض ما يرتبط بحياة المبدع السيرية والابداعية..كما فعل ابن خلدون في التعريف واسامة بن منقذ في الاعتبار وابن شهيد الدمشقي في الدر الثمين في سيرة نور الدين..وميخائيل نعيمة في كتابه جبران خليل جبران وفدوى طوقان في اخي ابراهيم ومحمد حسنين هيكل في حياة محمد(ص) وابراهيم عبدالقادر المازني في قصة حياة..
والدكتور نجاح هادي كبة في دراساته السيرية الغيرية عن (اعلام الحلة في الفكر والثقافة والادب)يحتفي بالمكان الذي يشكل احد عناصر العلاقات النصية (الزمان/الشخصية/الرؤية.).فيكشف عن مضامينه من خلال النص الموازي(الحلة وريثة بابل) الذي جاء فيه(حين تقدم الزمن ببابل اسست مدينة الحلة عام(495هـ) على يد الامير سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبسيس بن مزيد الاسدي(ت501هـ)في الجامعين وبنى فيها الدور والقصور حتى صارت من احسن مدن العراق واجملها..وشهدت ايامه ازدهار الحلة اقتصاديا وفكريا..فكان محبا للعلم والعلماء والادباء مكرما لهم وبالغ في اهتمامه بالفقهاء مجزلا العطايا وقد ذكرت المصادر بانه اقتنى كتبا نفيسة زاد عددها على الالف والخمسمئة كتاب) ص4..
ثم يعرج الكاتب على سير ابرز اعلامها مستذكرا احمد سوسة المؤرخ والاثاري والخططي الذي ينتمي لاسرة يهودية..لكنه يشهر اسلامه في القاهرة وعلى اثر ذلك كان كتابه(في طريقي الى الاسلام) بجزئين ..اضافة الى خمسين مؤلفا فنيا واطلسا جغرافيا واحدا..ومقالات بحثية في الري والزراعة والهندسة والجغرافية والتاريخ حصيلة عمله مهندسا في دائرة الري فمديرا عاما للمساحة ومن ثم مديرا عاما في ديوان وزارة الزراعة..
ثم ينتقل للخوض في تجارب شعرية فكانت محطته الاولى الشاعر اديب كمال الدين مشروعه السيري انطلاقا من الولادة والنشأة فالدراسة والابداع الشعري بتوظيف الحرف الذي وجد فيه(طاقة سحرية)..وكشف عن مستوياته المتمثلة في المستوى الدلالي(الترميز/الايقاع/التشكيل/ التراث/ الاسطورة/الطفولة..) ص20..
فمنجزه الشعري(تفاصيل/اخبار المنفى/اربعون قصيدة عن الحرف/افول الحرف الحرف/اعني اصابعي..)..فالانتقال الى عالم المراة الشعري والشاعرة حسينة عباس بنيان شاعرة الرقة والوطنية عبر مجاميعها الشعرية(كلمات ما بعد الموت/سمات بابلية/عراقية في سطور/ الحداد..) فولادتها ونشأتها ودراستها المكانية والمرحلية التي بدأت في الحلة وانتهت بها وشهادة الهندسة الميكانيكية التي اهلتها للعمل كمهندسة في دائرة الطرق والجسور فرئيسة مهندسين في وزارة الاعمار.. من شعرها:
اني جاهرت بحبك ياوطني
فاغفر حزني يوم تزاحمت الاشواك على صدري
فحملت جراحك في صدري
ولمحت خيول الله تمد لك الاعناق
يا ضوء مدارات الآفاق /ص30
ويستمر الخوض في غمار العوالم الشعرية فتستقر محطة الكاتب بين عوالم الشاعر حميد سعد الذي(عاش في طفولة هادئة وصبا مستقر وشباب عاصف..اذ انغمر في العمل السياسي ففتح له افقا معرفيا ما كان ليتوافر له في البيت او المحيط الاجتماعي..وكانت حياته اقرب الى اليسر منها الى العسر…لم يكن طالبا متميزا ولم يتلكأ في دراسته..وقد عمل في التعليم الابتدائي ثم اكمل دراسته الجامعية في الادب العربي في الجامعة المستنصرية..( كما يؤكد ذلك الدكتور صباح المرزوك..
وامتد نشاطه الادبي الى ان يكون سكرتير تحرير مجلة الكلمة فالاجيال ومجلة شعر والاقلام والموسوعة الصغيرة والاديب المعاصر والكاتب العربي.. وشغل منصب الوكيل الاقدم لوزير الثقافة والاعلام فرئيس مجلس امناء بيت الحكمة..اما منجزه الشعري فله(لغة الابراج الطينية وقراءة ثامنة وديوان الاغاني الغجرية وحدائق الحضور وطفولة الماء فمملكة عبدالله وشواطيء لم تعرف الدفء فبستان عبدالله وباتجاه افق اوسع وفوضى في غير اوانها والحدائق التسع ومشهد مختلف..) وقد ترجمت بعض اعماله الشعرية الى الفرنسية والانكليزية والاسبانية والصربية والكرواتية.. اما فيما يتعلق بالمكان وشحناته فقد كتب السيري(يتوحد الشاعر صوفيا بذكرياته القديمة والحديثة مع المكان بما فيه من رموز تاريخية وجغرافية وانطولوجية..) ص38..
ثم ينتقل وهنا المفارقة الانتقالية الى السيد حيدر الحلي(1737 ـ 1887) الذي يجب ان يحتل مكان الصدارة في الكتاب كما نرى..كونه ينتمي الى اسرة جلها من الشعراء..فضلا عن كتابته الشعر مبكرا وساجل الكثير من شعراء عصره..اما منجزه فينحصر في ديوانه الدر اليتيم والعقد المفصل ودمية القصر في شعراء العصر والاشجان في مراثي انسان(جمع فيه مراثي صديقه السيد ميرزا جعفر القزويني)..من شعره في مدح الرسول(ص):
أي بشرى كست الدنيا بهاءا قم فهني الارض فيها والسماءا
طبــق الارجــاء منــها أرج عطــرت نفــحة رباه الفـــضاءا /ص50
فالانتقال السيري للمكان وعوالم الجغرافية والسرد متمثلة بشاكر خصباك الجغرافي الذي ابدع في الادب والترجمة والسيرة..فهو المتخصص بمادة الجغرافية اكاديميا في اليمن والسعودية والعراق..واديبا مبدعا في نسج القص الواقعي ابتداء من مجاميعه القصصية(الصراع)و(عهد جديد).. فالابداع الترجمي متمثلا في تشيخوف والانتاج المسرحي في (بيت الزوجية) وفي السرد الروائي له(السؤال) فـ (الحقد الاسود) و(الاصدقاء الثلاثة) التي عالج فيها الخراب العراقي بعد الاحتلال..وله كتابات مضيئة في التراث الجغرافي العربي..ومن كل هذا يحق لنا ان نقول(خصباك تميز بالجغرافية وابدع في الادب)..
اما في مجال السيرة الفهرسية والتاليفية فكان الدكتور صباح المرزوك الحاضر الغائب الذي بدأ حياته في الكتاتيب فالمدارس الحكومية حتى البكالوريوس والماجستير والدكتوراه من جامعة انقرة في الادب المقارن..فالعمل في جامعة بابل تدريسيا ورئيس قسم الفهرسة والبحث الادبي والفلكلور..اما فيما يتعلق بمنجزه فله(اعلام بابليون منهم:الدكتور جواد احمد علوش ورؤوف الجبوري وطه باقر وعبدالجبار عباس وكاظم التميمي وهادي جبار الحلي وطارق حسن كاظم ومعيوفة الحلي والدكتور احمد سوسه وعالم سبيط النيلي..) وله ايضا جميل بن معمر رائد الشعر العذري ومعجم الامثال الحلية ونازك الملائكة في المراجع العربية والمعربة ومحمد باقر الحلي وخليل مطران في المصادر العربية والمعربة ومعجم الشعراء العراقيين في القرن العشرين ومعجم شعراء الحلة حتى منتصف القرن الثالث عشر الهجري وتاريخ كرة القدم في الحلة والقاب بعض الشعراء المعاصرين..فموسوعة اعلام العرب في القرن التاسع عشر والعشرين..اما في مجال نشاطه الاداري والتدريسي فقد ترأس قسم اللغة العربية والاجتماعيات في معهد المعلمين في كركوك وترأس وحدة الاعداد والتدريب في المديرية العامة لتربية بابل..اضافة الى مشاركاته في العديد من المؤتمرات والندوات..من كل هذا نخلص الى ان المرزوك عنوان مرجعي ومعرفي لمدينة الحلة بتاريخها وتراثها وثرائها الفكري والادبي..
اما في الآثار فكان طه باقر انموذج العراق والامة عموما والحلة خصوصا بحكم دراسته لما كتب بالخط المسماري السومري وتعلم الاكدية..تحدث عنه كوركيس عواد قائلا(ان هذا الرجل فخر للعراق والعرب بما يملكه من علوم وثقافة واسعة في ميدات اختصاصه في الآثار القديمة..) ص39..
طه باقر انجز الكثير من المؤلفات في مقدمتها(مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة بجزئين الاول خاص بتاريخ العراق القديم وحضارته القديمة..والجزء الثاني خاص بتاريخ بلاد وادي النيل وحضارته وبلاد الشام وجزيرة العرب..تلاه بملحمة كلكامش فموجز تاريخ العلوم والمعارف في الحضارات القديمة والحضارة العربية الاسلامية وهناك من تراثنا اللغوي القديم والمرشد الى مواطن الآثار والحضارة..واخيرا يؤشر الكاتب اشارات في حياة طه باقر منها المامه باللغات الالمانية والفرنسية والسومرية والاكدية والبابلية والاشورية والعبرية مما اهله ليتقلد مناصب عدة منها مدير عام الآثار وعضوية المجمع العلمي العراقي…
اما في النقد الادبي فينتقي الكاتب فتى النقد الادبي عبدالجبار عباس فيسجل سيرته الحياتية التعليمية والوظيفية اذ عمله في اذاعة بغداد بعد تخرجه في كلية الاداب..قال فيه الدكتور علي جواد الطاهر(انه فتى النقد الادبي في العراق..انه الناقد الذي حاز لقب الناقد بحق..) ص100..اضافة الى انه لم يفرط في كتابة الشعر اذ كان يلوذ به بين حين وحين..ومن شعره:
ضحوك الوجه وضاح الجبين
يسل الشمس من فلك الظنون
فطمت على هواك فتى ويبقى
وضيع هوى على كبر السنين
وما بيني وبين لماه هـــجس
من الصبـوات اوثق من جنون
يــوزع حــبه بيــن الـــبرايا
واشفق ان ينال هــــواه دون
/ص103
اما اصداراته فكان اولها (السياب) و(مرايا على الطريق) وله (في النقد القصصي)..بعدها يقف الكاتب على آراء الدكتور علي جواد الطاهر التربوية والتعليمية..واهم مؤلفاته(اصول تدريس اللغة العربية)و(الباب الضيق) و(ج.س.اسئلة عن اجوبة في الادب والنقد)و(الخلاصة في مذاهب الادب الغربي)..
فالوقوف على سيرة فقيد الثقافة قاسم عبدالامير عجام القاص والناقد والباحث في العلوم الزراعية..كونه مدير التخطيط والمتابعة في المنشأة الزراعية في المسيب فمدير ناحية المشروع واخيرا مدير عام دائرة الشؤون الثقافية..فانطباعات الكاتب عن صاحب السيرة وتسجيل بعض العلاقات المضيئة في حياته..
ويستمر الكاتب في سياحته بين عوالم الحلة ومبدعيها فيقف متأملا الفلسفة والنقد الادبي وما قدمه المفكر محمد مبارك الذي ترعرع ونما في عوالم مدينة الحلة وتعلم في مدارسها بتفوق حتى حصوله على زمالة دراسية الى مصر ونيله شهادة الليسانس في الادب الانكليزي..فضلا عن اصداره عدة مؤلفات منها:الكندي فيلسوف العقل ومواقف في اللغة والادب والفكر ودراسات نقدية في النظرية والتطبيق والوعي الشعري ومقاربات في العقل والثقافة ومقالات في الفلسفة العربية الاسلامية والشاعر والصعلوك..ثم يقف الكاتب على محطة مهمة في فكر مبارك الا وهي العلاقة بين النقد الادبي والفلسفة..
ثم ينتقل الكاتب لسرد سيرة الشاعر محمد مهدي البصير ومواقفه الوطنية والسياسية بعد الخوض في مراحل سيرته الاولى(التعليم في الكتاتيب فدراسة العلوم الشرعية وظهور مواهبه الخطابية والفكرية التي جرته صوب السياسة والادب والشعر حتى حصل على لقب شاعر ثورة العشرين..اما في التاليف فله:تاريخ القضية العراقية وبحث عن الشعر الجاهلي ونهضة العراق الادبية في القرن التاسع عشر وديوان البركان..بعد هذا ينتقل الكاتب الى مزيد الحلي الشاعر فيعرج على الاغتراب في شعريته بعد الوقوف على سيرته الحياتية ورحيله عن الوطن صوب سوريا.. وحنينه اليه..
أتعــود ايامي بــذروة بابــل؟
هيهات ايام مضــت أتعود؟
والحلة الفيحاء فيها طينتي
دار بها اهل الندى والجود
ويعود مسار السرد السيري صوب عوالم المراة الاديبة ويتوقف مع مقبولة الحلي فيقدم سيرتها الحياتية والشعرية التي كانت تكتب باسم(عفراء) لكن اباها طلب منها ان تصرح باسمها فظهرت باسم(مقبولة الحلي)..من شعرها:
اهواك روحا وشعرا وفي خيالي ذكرى
وفي ظلامي نــــورا يشع نبلا وسحرا
يا مأمل الروح اني جنيت حبك زهرا
فــان اتيــت بــذنب فان لي منك عذرا
وان جفــيت فــاني اهواك ما عشت عمرا ص193
فالانتقالة السيرية لشاعر السخرية والتحريض موفق محمد فناجح المعموري القاص والروائي والباحث في الاساطير وما يتعلق بالتراث الرافديني…ومن منجزه:(شرق السدة..شرق البصرة/رواية)و(الشمس في الجهة اليسرى/قصص) و(مدينة البحر/رواية) و(الالعاب الشعبية في ريف العراق) و(موسى والتوحيد) و(موسى واساطير الشرق)و(التوراة السياسي) و(اقنعة التوراة)و(المسكوت عنه في ملحمة كلكامش) و(التوراة وطقوس الجنس المقدس)..
فنعمة رحيم العزاوي وسيرة وذكريات ومنجز انحصر في:احمد حسن الزيات كاتبا وناقدا والنقد اللغوي عند العرب حتى نهاية القرن السابع الهجري ومظاهر التطور في اللغة العربية المعاصرة وزكي مبارك سياسته الادبية والنقدية…
وبذلك قدم الكتور نجاح هادي كبة منجزا سيريا شكل اضافة خلاقة يزهو بها الفكر الانساني..كونه يكشف عن المستور ويعلن عن المسكوت عنه..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة