المعرفة الزائدة!

يطرح ( روبن آبيل ) في كتابه ( الانسان هو المقياس ) تعبيراً لا يخلو من غرابة ( الإيبستيموفوبيا ) أو الخوف من المعرفة ( المتأصلة بصورة همجية ) و يقصد بالتحديد ( الخوف العقلاني ) ثم يشفع تعبيره هذا بملاحظة لافتة أيضا أبداها الرئيس اليوناني السابق ( جورج بابا دوبولوس ) تتضمن تحذيراً من ( المعرفة الزائدة ) و نوع التدريس الذي ( يوسّع عقلية الطفل من دون أن يعدّه لعمل إجتماعي مفيد ) ليقرر بناء على هذه الرؤية أنّ ( كثيراً من الاضطراب في هذا العالم يرجع الى المعرفة الزائدة ) ، ربما تتصل مثل هذه الدعوة لترشيق المعرفة بحاضر اليونان الأقل تقنية قياساً بالأرث الثقافي الذي خلفه فلاسفتهم على مر العصور و بالتالي فإن هذا السياسي يعزو أسباب تأخر التقانة الى ورش الإشتغال العقلي الفائض عن حاجة الممارسات العملية أو التطبيقية .
إنّ مثل هذا التشخيص يلفت إنتباهنا الى فائض الجدل في الثقافة العربية سواء على مستوى الدين ( الفقه ) أو اللغة ، مدارس النحو و إختلاف النحويين حدّ التوسع اللامجدي أو الخطاب الفضفاض و الإنشائي الذي ما زال سائداً حتى اليوم وبلا رصيد عملي يبرر استفاضته أو إطنابه بتعبير البلاغيين ، بالطبع لسنا بصدد تأكيد حقيقة ما لكننا نتساءل : ألا يوجد فائض بلاغي نستهلك فيه عقول الأجيال جيلا بعد آخر ؟ يتحدث الرئيس اليوناني آنف الذكر عن ( معرفة زائدة ) بل و يحذر منها بوصفها عائقاً كما يعتقد ترى كيف يكون الحال عندما نجد أن هذا الفائض أو ( الزائد ) خرافي لا يصلح حتى أن نسميه معرفة ؟ ! ألا يستحق التحذير مرتين لا مرة واحدة ؟
هذه الإنتباهة تصلح للرصد و المراجعة على أكثر من صعيد ، طرق و أساليب التعليم التي تكرس الفائض من دون جدوى ، خلل المشروع العربي بدءا من تأسيساته البلاغية التي أفرزت كتباً و مصنفات تصل الى عشرات الأجزاء دون أن تمهد السبيل أمام إنسانية الانسان بل هي اليوم اصبحت رصيداً للتكاره و إثارة العصبيات المفضية للنزاع و التقاتل ! حشد من المقولات التي إستبدلت مقتضيات الواقع العملي بمخيال أدبي بلاغي لا حصيلة منه سوى الكائن الإسطوري الذي يهدر قيم العلم لصالح الخرافة ! تصلح هذه الإنتباهة أيضا لرصد المثقف ( المكتبي ) الذي لم يسع لتبيئة أفكاره مستغنياً عن واقعه بحلمه ! مثقف بلا بيئة ! بل إنّ المكتبة هي ( البيئة ) عنده ، هذا الوعي المنعزل ( وعي المكتبة ) هو الذي شخصه القاص ( محمد خضير ) بعبارة موجزة في تقابل مع وعي الواقع ( إن وعي المكتبة هو النقيض الأصلب لوعي السفر ) .. وعي المكتبة هنا وعي الإقامة ! وعي العزلة و اللافعل يقابله بالضرورة وعي التجربة و المغامرة التي تنقصنا .. أضع هذه الندبة على رف التصدع الذي نعانيه وهي محطة تستحق الوقوف و التأمل على طريق الخروج من الخانق و السفر نحو التأريخ !
جمال جاسم أمين

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة