علوان السلمان
الشعر هو اللغة في وظيفتها الجمالية..والفعل المغامر..المتجاوز للواقع بلغة مشحونة بايحاءاتها الخالقة لصورها المستفزة لذاكرة المستهلك(المتلقي) والنابشة لخزينه المعرفي للإجابة عن اسئلتها باستنطاق صورها والكشف عما خلف الفاظها الرامزة وتشكلها الجمالي الرافض للتأطير..والموقظ لمكامن الشعور..
وباستحضار المجموعة الشعرية(تماماً..كما تحًدث الموجة الموجة)..التي حاكت خيوطها النابضة بالحياة وبئرتها انامل الشاعر علي حداد.. واسهمت مؤسسة ثائر العصامي في نشرها وانتشارها/2016.. كونها تعبر عن مكنونات الذات(بوقع الكلمات من حيث شكلها وصداها لا من حيث المعنى) على حد تعبير سارتر..لان النص الشعري يولد من وجد ذاتي ولحظة وامضة وعلى وهج العاطفة ينضج..بصفته الحلم المستبطن اسرار الآخر النفسية..
علمني الرب الكلام
كيف تريدونني
ان اتعلم الصمت؟
لا ذهب في الصمت
الصمت صفيح بارد
الكلام لآليء من فم الرب / ص5
فالشاعر تحتشد ذاته داخل عوالم النص وتراكيبه فتصبح حركتها الداخلية حضور فاعل ومتفاعل يفوق حركتها الخارجية باعتماد لغة ادراكية ترمي الى خلق بنية تخاطب الفكر قبل العاطفة.. من خلال نص قائم على المتضادات المتصارعة(الكلام/الصمت) المتوالدة من كينونته المتحركة والقابلة للانسياب في فضاءات وامكنة وازمنة مشكلة معمارية شعرية حدائية(تخفي كل شيء..لكنها في الوقت ذاته تقول كل شيء)..
وابٍ
تمد الذراعين
مشغولة بأساور خضرتها
ذراعا الى قلبها(المركزي)
وأخرى الى حيث أقدامها في (العدين) /ص17
فالنص بتزاحم صوره الموحية يتوق للتوحد والخروج عن الذات ليذوب في الآخر(المكان)(المدينة اب وسوقها المركزي والعدين الوادي الخصيب غربها).. وجودا وفعلا فاعلا ومتفاعلا..لذا فالشاعر يستدعي متلقيه لرحلة شعرية متفائلة..مكتظة بعوالمها الخصبة بالرؤى والاحاسيس باسلوب سردي شائق متكىء على التكثيف الجملي المبتعد عن استطراد وصفي لخلق نص حسي..شعوري مكتنز بالعواطف روحيا باجواء رومانسية محركة للحواس الشعورية بائتلاف الجمل والتناغم الصوري والايقاعي..الجمالي الذي يأخذ نسقه من عاطفة النص الغارقة في الوجد الذي يسبح الشاعر وسط عوالمه عبر فضاءات منفتحة على آفاق دلالية مشبعة بها الذاكرة المنتجة التي تتجلى في كونها قيمة اجتماعية وموقف انساني..اضافة الى قيمتها الجمالية الجاذبة..المتجاوزة بحلميتها لتخلق خطابا يتكىء على فضاء دلالي عبر بنية يغلب عليها الانزياح الذي يكشف عن امتلاء المخيلة بالمعطيات الحسية..
يا سيدي… يا حسين
أيا..من توضأ فيك الضمير
بـ (لاءات) كل العصور
فصارت يقينا بما هي ركابك
كيف(لاويت) اقدارك الكنت تعرفها
منذ ان كنت طفلا
تصلي على فمه قبلات ابيه..جده؟
كيف طوعت امسك للغد
حتى انحنى عند اقدامك الطاهرات؟
كيف لم تنزاح خيول يقينك
والموت كان رهين ركابك؟
ام تخاتله حتى يضيع الطريق
أو تجادله.. كيما يكون لك..لا عليك /ص115 ـ ص116
فالخطاب النصي يجسد العلاقة بين التاريخ المكتظ بالحياة من جهة والذات المتفاعلة حضاريا مع الزمن من جهة اخرى..كما انه يشكل وحدة تؤهله لاشغال الرمز في حقول دلالية توحي بالتطلع الى آفاق مشعة بالامل مما ادخله في حوار مع الجذور التاريخية باستحضار رموزها واماكنها..اما على المستوى التخييلي فالنص يتماهى والذات المنتجة بتدفق وجداني منبعث من دائرة الوعي الشعري المؤطر بعوالمه الصورية ودلالاته الموحية بتقنيات فنية شكلتها مجموعة من المهيمنات والتمظهرات داخل بنية النص تجسدت في التكرار الاسلوب التوكيدي المزيل للشك والنمط الصوتي والدلالة النفسية التي من خلالها يعلن الشاعر عن مشاعره..فضلا عن الرمز الاستعاري الذي هو اداة فكرية تسهم في تصعيد التكنيك الشعري..اذ فيه تسمو التجربة الشعرية فتتحول الصورة الى رؤيا تستمد نبضها الدافق من الذاكرة الذاتية والموضوعية بتوليفة تجمع ما بين الواقعي والتخييلي..اضافة الى الاستفهام الذي يسهم في توسيع مديات النص عبر الاجابة..والتنقيط(النص الصامت) الذي يعد عنصرا بنيويا مؤديا التأويل..باستدعاء المستهلك(المتلقي) لملىء بياضاته بما يناسب فحواه..وهناك التكرار الاسلوب الذي يعد شكلا من اشكال الموسيقى الداخلية المضافة..والتي تتسق والايقاع العام وتكشف عن مكنونات الذات المنتجة وانفعالاتها وعمق احاسيسها.. وهناك التضمين كما في قوله:
(يكسرن قلبك..ثم لا يجبرنه) ص25
وقوله:
(اذا كان ماضيك تجربة
فاجعل الغد معنى ورؤيا) ص71
اضافة الى تعريف الفعل(الكنت) لتقريبه من الاسمية الدينامية..وتوظيف المفردات العامية(لاويت/شاي العصاري/البلكونة/..).. للكشف عن الانتماء البيئة المكانية.. وقوله:
نأوا كنجم نأى.. ياقلب عنهم تعز
ادريك تعشقهم..أدري لهم كم تعز
لكن طول الشجى ذل ولي انت عز
دعهم وما أشعلوا فينا..ولذ بالصبر
واصدح بترنيمة خضراء يأتي(صبر)
لكي يواسي العراقي الذي..كم صبر
ان أوصدت قلبها بغداد..تأتي تعز /ص29
فالنص عند الشاعر تأكيد للحس الوجودي والبيئي مع تصوير الاحساس بالفاجعة التي اصابت البلد(العراق) وذلك بتعميق الحس الدرامي من خلال التماس بالرمز..
لا أخاف عليّ..أخاف عليك
فأصنع من ضجة الناس والضوء حولي
دريئة صحو.. تعيدك فيّ ـ كما يفرض الدور ـ
لنفيء الى لحظة أنت أسرجتها
وأشرت لها:ها هنا..قفي
ان هذا أوان انهمار الدماء
على وسع هذا المكان
على وسع غيهب كل زمان
ان هذا أوان انهمار الدماء
دمائك
دمائك وحدك
يا سيدي
ياحسين ص121
فالشاعر يعبر من خلال نصه عن الانفعال الوجداني الذاتي فيؤالف بينه والموضوعية وفقا للمستوى الفني الذي بدا في الرموز المنتقاة من اديم الواقع والتي جسدت ببنائها العام اتساع الرؤية..كونها جاءت بالرمز الكلي الذي اضاء ابعاد النص الذي يبدو من خلاله الشاعر انه لا يريد ان يصور الطبيعة المأساوية بقدر ما يريد ان يحملنا على الاحساس بهذه المأساة..لانه يحمل في طياتها وجعا كونيا متمثلا بالرمز الحسين(ع)..
وبذلك قدم الشاعر نصوصا شعرية شكلت اضمومة يمكن النظر اليها عبر مستويين فنيين:اولهما مستوى الرؤيا..اذ عبق التاريخ ورموزه والامكنة المحفورة في الذاكرة والحاضرة في الحقل الثقافي والمعرفي والوجداني.. وثانيهما المستوى التعبيري..اذ يوظف الشاعر مفردات متناغمة الحروف تناغما يضفي على النص موسقة جاذبة تجر متلقيها وتأسره للتأمل والبحث عن خصوصيتها الجمالية والدلالية..كونها مكتظة بالصور الفنية المتلاحقة بشكل مكثف..موجز العبارة المتحاورة مع جذرها التاريخي وارتباطها بالحداثة الشعرية..