نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار

هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 6
الفصل الثاني
الوظائف الاولى
مرحلة اكتشاف الذات
البلديات العامة قي شمال العراق – فرقة المساحة ، مطار الغزلاني في الموصل ،
امانة العاصمة ، شركة نفط البصرة والخطوة الاولى على الطريق ,
ميناء الفاو , زواجي وانا في شركة نفط البصرة

بعد اربع سنوات من الحياة الدراسية الجامعية الجميلة والمفعمة بالذكريات والتحصيل والمثابرة، كان يوم التخرج في كلية الهندسة من اهم محطات حياتي وكانت دورتنا هي الدورة الخامسة لكلية الهندسة في سنة 1950. وفي حفل التخرج في (20) حزيران 1950 للدورة الخامسة لكلية الهندسة في بغداد الذي اقيم على القسم الصيفي في الحدائق الغناء من قاعة الملك فيصل الثاني في الباب المعظم اأنيطت بي مهمة القاء كلمة الخريجين بتكليف من عميد الكلية الانجليزي ( رتجي Ritchi ). وقد حضر هذا الحفل وزير المعارف وشخصيات علمية وسياسية واجتماعية رفيعة المستوى ، اضافة الى اهالي الطلبة المتخرجين، وكان من ضمن الخريجين ستة طلاب من الاردن وواحد من سوريا وآخر من زنجبار، وكان عدد الخريجين اربعين خريجا من الشعبتين .
وها قد بدأت مرحلة جديدة من حياتي، مرحلة الحياة العملية والبحث عن عمل مناسب وتكوين شخصية مهنية مستقلة. ولما كان هذا الامر الحاسم يستدعي التفكير والتخطيط، وملاءمة هذا مع طموحاتي يومئذ فقد قررت ان اكون مهندسا جيداً في السنوات العشر الاولى، ثم الحصول على منصب هندسي مرموق في السنين العشر الثانية ، ثم ابدأ بالجانب المادي المالي الذي يساعدني على تحقيق ما رسمته في مخيلتي. وقد عملت ما وسعي وفقا للظروف والمتغيرات للسير نحو المستقبل.
كانت آثار الحرب العالمية الثانية لم تزل بادية على العراق والعالم بأسره، وفي هذه الظروف بدأت رحلة البحث عن العمل. ذهبت اولا الى الدائرة الهندسية في مديرية التخطيط في البلديات العامة وكان مديرها يومذاك د. محمد مكية ، وقد ابلغني بعدم حاجتها الى مهندسين. فذهبت الى وزارة المعارف، وكان فيها قسم للابنية المدرسية، يرأسه المهندس المعماري ( جعفر علاوي )، وقدمت طلبي للتعيين، فقوبلت بالرفض وعدم وجود عمل. كما اتصلت بوزارة الشؤون الاجتماعية، وكانت فيها دائرة هندسية يديرها المهندس المعماري ( مدحت علي مظلوم )، وقوبل طلبي بالاعتذار ايضا.وفي الوقت نفسه كان عدد من زملائي قد تقدموا للتعيين في دوائر الري، ولم ارغب في العمل بمشاريع الري، اذ كان طموحي هو العمل في الابنية أي حقل البناء من قطاع التشييد ، فلم اتقدم معهم ولم التفت لذلك.
****
البلديات العامة في شمال العراق – فرقة المساحة
كانت والدتي قد اتصلت باحد معارفها، وكان على صلة بالسيد عبد الرزاق شكارة مدير عام البلديات العامة ، وافق على تعييني مساعد مهندس في فرقة للمسح الهندسي في الموصل في آب 1950. ذهبت الى الموصل، والحقت بفرقة المسح التي مقرها في مدينة الموصل آنذاك . يتركز العمل في فرق المسح على تنظيم ورسم خرائط للشوارع والساحات والدور وسائر الابنية الموجودة، بعد عملية المسح الموقعي لتلك المناطق اي القرى والنواحي ، وكانت الغاية منها لاجل مد شبكات الخدمات كالمياه والكهرباء حيث لم تكن هناك خرائط جوية للمدن العراقية آنذاك . وكان عملنا دقيقا، اذ ان اجهزة القياس ( ثيودولايت ) تتأثر بالتغيرات المناخية عند قياس المسافات الطويلة بين راقم وآخر. ثم ربط عمليات المسح هذه مع شبكة التثليث العام التي تغطي العراق كله من الشمال الى الجنوب، وقد قام بتنظيمها المهندسون الهنود في فترة الاحتلال البريطاني للعراق في الحرب العالمية الاولى.
لم اكن اعرف الشيء الكثير عن طريقة المسح المتبعة، فقد كان المساحون يضعون اجهزتهم على احد الرواقم ( الجيودوستية ) عند شروق الشمس، ويستمر العمل معتمدين على تلك الرواقم وتأسيس نقاط مسح جديدة، كي يربطوا عملهم مع شبكة العراق المذكورة. وعند ارتفاع درجات الحرارة يعود المساحون الى مكاتبهم ( وهي دور مؤجرة وقتيا ) في القرى ليكملوا اعمال التثليث والمسح الموقعي ورسم الابنية والأزقة عن طريق لوحة الرسم والمسطرة والتسقيط الشعاعي ورسم الخطوط وربط المواقع ببعضها او مع الشبكة الرئيسة.
قررت ان ازور فرقة المسح التي كانت تعمل في مدينة تلكيف لاطلع على اعمالها واطلع على تلك المنطقة التي لاتبعد يومذاك اكثر من اربعين دقيقة بالسيارة عن مركز الموصل. ومن الطرائف التي اتذكرها دوما ما وقع لي في احدى رحلات العودة الى الموصل، فقد طلبت من فراش الدائرة ان يحجز لي مقعدا في الحوض الامامي لسيارة تكسي ذاهبة الى الموصل. عاد الفراش وقال ان السيارة جاهزة بجوار خزان الماء العالي في المدينة.. ولما وصلت الى السيارة وجدتها سيارة قديمة من مخلفات الحرب العالمية، ويجلس اثنان في المقعد الامامي وآخران في المقعد الخلفي، ولما سألت السائق عن مقعدي المحجوز لي، اجابني: انت تجلس بجانبي من الجهة اليسرى ! قلت له: وكيف، قال وبلا تردد او اهتمام: لاعليك انت اجلس بجانبي، ولكن علينا ان نأخذ آخرين عند الخروج من المدينة. رأيت ان لاحيلة لي امام الامر الواقع وجلست على يسار السائق على مضض. جلست ويدي اليمنى خلف السائق، واليسرى لصق الباب، وهكذا سارت السيارة حتى توقفت قبل الخروج من المدينة امام قطيع من الأغنام والماعز مع الراعي، واذا بهذا القطيع ينتظر سيارتنا لتقله معنا !! توقف السائق وفتح الباب الخلفي للسيارة، وبعصاه ضرب على ارجل الراكبين في الحوض الخلفي،وعند ذاك رفع بيديه القويتين اربعا من الماعز ووضعها امام ارجلهما، ثم اجلس الراعي بجنبهما، اما الاغنام الخمسة فقد فتح صندوق السيارة وحشرها فيه ثم اغلق الصندوق عليها، وصعد ثانية ليقود السيارة المحملة بهذه الحمولة العجيبة. وبعد زهاء ساعة من السير على الشارع المتموج الذي تحيط به شجيرات البطيخ التي تنمو على المياه الجوفية، وصلنا كراج مدينة الموصل، وكنت منهكا واكتافي تؤلمني، ودفعت الاجرة وكانت خمسين فلسا. لايمكن ان انسى تلك الرحلة وبقيت في ذاكرتي بكل تفاصيلها.
سكنت الموصل في بيت موصلي تقليدي قديم من طابق واحد يقع على شارع الدواسة ، يتكون من غرفتين، الاولى مطلة على الشارع بجانب المدخل والثانية تطل على حوش البيت المكشوف، وكانت جدرانه مبنية من الحجر الملبوخ من الخارج والداخل، وسقفه معقود بالحجر والجص على جسور حديدية (عكادة)، اما الفتحات في الجدران فقد رصفت بحجر الحلان الاسمر المنظم مما يعطي للبيت جمالية تدل على مهارة ودقة عمال البناء. ولم يكن لدي اي اثاث في تلك الدار سوى فراش النوم على الارض، مع ما يشبه المنضدة اضع عليها كتبي وبعض حاجياتي البسيطة. وكنت اجتمع احيانا في هذه الدار مع المساحين او رئيس الفريق لبحث امور العمل. والحقيقة انهم كانوا من ذوي الخبرة الطويلة في عملهم، ولم يكن لدي ما اضيفه الى خبراتهم.
وفي وقت لاحق، قررت ان ازور فرقة العمل في مدينة دهوك، وذلك لتهيئة الخرائط الخاصة بالطرق والازقة والعوارض الاخرى لمد شبكة الكهرباء الجديدة للمدينة. مكثت في دهوك ثلاثة ايام، تعلمت فيها عن اعمال المسح بنحو طبيعي، ونقلت التعليمات التي زودني بها رئيس الفريق. ولما كان احد اصدقائي من المهندسين وهو السيد حميد الشماع يعمل مساعد مهندس في مشروع بناء فندق سرسنك لمصلحة شعبة المصايف في تلك المديرية، فقد قررت زيارته لمدة يومين للاطلاع على سير العمل اولا، والاطلاع على المنطقة التي كثيرا ما سمعت بها او قرأت عنها. كان المسؤول عن بناء فندق سرسنك مهندسا هنديا يساعده صديقي الشماع ، ولما وصلت وجدت ان العمل في مرحلة بناء انفاق الخدمات تحت الارض بعد مرحلة الاسس، ولاول مرة عرفت طريقة البناء بالحجر في منشآت كبيرة مثل هذا الفندق المطل على وادي سرسنك الجميل بألوانه الخضراء المتغيرة التجانس،وتضيف الى جماله بساتين ومزارع القصر الملكي، الذي يرتاده الملك واسرته في كل صيف، ويلتحق به الكثير من رجال الحكم.
وهنا مرة اخرى عن سفرتي الى سرسنك اقول اني قد طلبت من فراش الدائرة ان يهيئ لي مقعداً في سيارة اجرة ذاهبة الى سرسنك. وبعد مدة عاد وبين انه لم يجد سيارة اجرة، ولكن هناك سيارة حمل نصف لوري كندية الصنع ومن مخلفات جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ستذهب الى سرسنك. فوافقت على السفر عليها لعدم وجود اختيار آخر.
كان القسم الامامي من السيارة يتكون من مقعدين احدهما للسائق ويفصل بينهما غطاء الماكنة. وقد قرر السائق ان اجلس على ذلك الغطاء، لان المقعد الثاني كان محجوزا. اما حمولة المركبة فقد كانت خليطا عجيبا من صناديق المنتجات الزراعية، وعفش عدد من العائلات الكردية ، واعداداً من الدجاج الحي المربوط من ارجله، وبضائع اخرى، فضلا عن عدد من العائلات الكردية العائدة الى قراها. وبدأت السيارة بالمسير بين جبال كردستان على طريق دهوك ـ زاويتة ـ سوارتوكا ـ سرسنك القديم وكثير الالتواءات والانحدارات.
ابديت استغرابي لهذه الحمولة العجيبة، وعندما قلت للسائق بأن هذه الحمولة ثقيلة لاتسعها قوةه سيارته، اجابني بلغة عربية ضعيفة: بابا هذا حديد.. ما يصير عليه شيء. استمرت السيارة بالمسير في الطريق الجبلي الجميل، غير ان عطلا اصاب محرك السيارة فتوقفت،ونزل جميع الركاب للاستراحة ريثما ينتهي السائق من اصلاح العطل، ثم استمرت الرحلة الى نهايتها. لقد كانت هذه السفرة وانا القادم من بغداد محملا بمفاهيمها غريبة علي ولا تغيب عن الذاكرة، وادركت ان لكل ظرف طبيعته وخواصه. ومن الطريف اني كنت البس قبعة من الخوص، ولاحظني احد الاكراد المسلحين من راكبي السيارة، وتحدثنا عن تلك المناطق وسبب حمل الناس للسلاح فيها، وجرنا الحديث الى التهديف ودقته، فقال احد الحاضرين: ضع قبعتك على بعد خمسين مترا لاهدف على مركزها.. وقد اصابها فعلا. فادركت في حينه مهارة الجبليين وبراعتهم في التهديف .
حفل الزفاف في القوش: عندما كنت اقوم بواجباتي في دائرة فرق المسح المتجولة للبلديات في مدينة الموصل ، ولكثرة وجود أماكن سياحية في المحافظة قررت ان أزور مدينة القوش للاطلاع . وكالمعتاد حجزت المقاعد الأمامية من احد تكسيات الخدمة . انطلقت السيارة على الطريق في ساعة مبكرة من النهار ، وأذا بالمقاعد الخلفية محجوزة من قبل شباب ثلاث أحدهم أعلمني انه ابن مختار الناحية وهم ثلاثتهم من طلاب الكلية العسكرية وزملائه من الطلاب الليبيين يدرسوا في الكلية العسكرية.
سألني ابن المختار ، أين ستسكن في القوش ؟ أجبته في احدى الفنادق الموجودة ، فعلق بأن لا يوجد فندق في المدينة لذا دعاني ان اسكن معهم في بيته .
لم تكن ناحية القوش في خمسينات القرن العشرين إلا مدينة صغيرة متواضعة لم يكن فيها شارع واحد منظم حديثاً ولم اشاهد من الأشجار ما يضلل شوارعها وساحاتها أو دورها المشيدة من الحجر.
في اليوم الثاني من وجودي علمت ان حفلة زفاف ستعقد عصراً في ساحة المدينة . كنت من اوائل زوار الساحة المبكرين . الساحة عبارة عن تقاطع عدد من الشوارع مكونة فسحة وسطية جزء منها لايزال غير مشيد وتغطيه كتلة صخرية كبيرة تصلح ان يتسلقها الاشخاص والجلوس على الصخور المتفرقة لمشاهدة الحفل .
جلست على احدى تلك الصخور مترقبا الاحداث . بدأ ضيوف الحفل بالحضور الى الساحة وهم بالأساس سكان المدينة ، حيث ان مباشرة الطبّال وعازف الزنارة , كانت المباشرة بافتتاح الحفل. النساء بدأنّ بالحضور بألبستهنّ الملونة البراقة وذات الألوان الجذابه ، والشباب منهم بالبستهم المكونة من السروال والقميص والبعض بالبستهم الكردية. وفي موقع كهذا وعند سماع الطبل والزنارة تعزف لابد أن يبدأ برقص الدبكة الشعبية . عند تقدم ساعات العصر وزيادة المحتفلين ، باشر ساقي الخمر بتقديم شراب العرق من البطل الملفوق بقطعة قماش مرطبة لتخفيض درجة حرارة العرق ، يقدم الى الجلوس باستكان ليشرب الضيف نصف استكان وينتقل الساقي الى الآخرين . استمر العزف وكثر الزوار وكبرت حلقة الدبكة لتأخذ محيط الساحة جميعها والضيوف ينتظرون حضور العروس والعريس .
انفكت حلقة الرقص واتجه الراقص الأول الى احد الأزقة الجانبية واستمر الراقصون يزدادون عددا وسلسلة الدبكة تزداد طولا حتى التفت الى زقاق جانبي واتجهت الى زقاق آخر لتلتحم مع راس الحلقة الآخر والمزمار والطبلة تعزف باندفاع وساقي الخمر يطوف مرة اخرى على الضيوف وحلقة الرقص تزهو بالوان ملابس البنات والنساء الملونة ، وكل المدينة محتفلة بزواج احد شبابها وشاباتها . ذهب العريس ممتطيا فرسه الى دار العروس وبنحو أو آخر بعد تردد عائلة العروس عن الموافقة ، اختطف العريس عروسته من عائلتها وبعد فترة حضر الجميع الى الساحة وبدأ الزوار يهنئون العرسان بالزواج ومباركته وبذا أحتفلت المدينة الى ساعة متأخرة بهذه المناسبة السعيدة .
احتفل مجتمع القوش بكل بساطة ووقار في ساحة مدينته ، فرحا بزواج احدى شبابه وشاباته وانتشر الخبر وعلمت المدينة بهذه الزيجة التي تربط بين عائلتين من أهاليها . يالها من احتفالية بسيطة اشترك فيها سكان المدينة ، لا يمكن ان انساها لما فيها من معانٍ نبيلة .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة