كرسي اليونسكو مثالا

الاستفاضة الثقافية ونزعة التذوتن لا التغيرن
أ.د. نادية هناوي سعدون

ما كان للفينومينولوجيا الهوسرلية أن تندمج بالهرمينوطيقيا الهيدغرية الا لكونهما قد تباصرتا فخرجتا بضرورة تصوير وجود الانسان من خلال صلته بالعالم، وليس تصوير الانسان من خلال الفرد. وهنا يبزغ أمام المثقفين التنويرين التحدي المعرفي العام وهو كيف يمكن للواقع العلمي والمشهد الثقافي أن يتحررا من أسر الذوتنة الفردوية وقيودها المتعسفة ازاء المجموع، ليدخلا في منظومة التغيرن الجمعي متمتعا برحابة انطلاقاتها وسعة فضاءات تصيرها ومتاحات ما تمنحه من فيوض معرفية وما تسبغه من فوائد التبصر والوعي نحو الانسان والعالم.
وهذا ما كانت قد اشتغلت عليه الفلسفات العالمية المعاصرة وسعت إليه عبر اتجاهاتها المعرفية المختلفة. أما عربيا، فالأمر أقل مما يتوقع من ذلك بكثير.. وأما عراقيا فإن المقارنة قد ترتكن إلى درجة الصفر والسبب ترسبات الجينالوجيا التي رسختها حقب أو مراحل تأدلجنا فيها حتى صرنا مثل مروز نحتي بارز من المحال أن نحفر فيه.
ولعل أخطر ما تتركه تلك المحفورات الترسبية الذهنية بكل مفاهيمها الراكدة ومعطياتها الثابتة والسكونية أنها تجبرنا حتما لا قناعة نحو التعامل بما هو خارج عن نطاق ما تعلمناه وما تمدرسنا عليه من العلمية والمنطقية.
وهنا تأتي اهمية انشاء مراكز بحثية، تولد ولادات طبيعية، من رحم مؤسسات جامعية او غير جامعية، مهمتها ان تتدارك عواقب تلك الترسبات وتعالجها فتقضي على افات التذوتن والانفراد والواحدية عبر اشاعة روح التضامن الجمعي في طلب العلم وتبادله.
وبروح التضامن الجمعي وحدها سنضمن لأنفسنا القدرة على التخلص من تبعات التذوتن مقتلعين إياها من جينالوجيا عقولنا البحثية ، منتزعين بذرة حب التسيد منقلبين على انفسنا متجردين من المنافع الآنية.
ولا يعني التحصن بالغيرية إلغاء الذاتية بالمفهوم الكانتي وانما توكيد فاعليتها بالتخلص من الاسلبة الاحادية المنغلقة. وبهذا ستفهم الذات غيرها وسيفهمها الاخر متعاملا معها بتطور لا بانفصال وبثقة لا مراوغة وباحتضان لا اقصاء.
والذات المثقفة الواعية والعلمية هي التي تتسم بالموضوعية وتتأطر بالتحليلية وليست تلك التي استفاقت فوجدت نفسها تتنفس الصعداء من بعد غيبوبة وتتعرشن عن خيلاء وتتسلق عن ادعاء ومحسوبية بلا طموح أو مثابرة حتى إذا غدت في مواجهة مع الآخر ندا أو عضيدا نجدها تتعامل بفوقية كمركز ورأس. فتتمظهر بالامتلاء وهي خاوية وتتضاهى بثقلها وهي ليس لها غير مكتسبات واهية طوعها لها الاعلام وأغرتها بها الاحلام.
ولا شك أن أهم التحولات التي طرأت على مشهدنا الثقافي العراقي في مرحلة ما بعد التغيير انشاء مراكز بحثية ذات طابع ثقافي وعلمي ينتمي بعضها الى الوسط الجامعي لتقوم بدور طليعي في بث المعرفة والتصعيد باتجاه التغيير للمعتاد في عالم البحث العلمي والدرس الاكاديمي .
وهذا ما كنا نأمله من منابر بحثية اعتقدنا أنها ستجسر أواصر التواصل مع مختلف الميادين وتعطي للتفاعل البحثي مع الداخل العراقي وخارجه وجهه المشرق والجديد.
وصحيح أن إنشاء أي مشروع يبزغ وليدا يتطلب توافر ظروف مواتية تجعله قادرا على النمو ليبلغ مرحلة الحبو، ثم يدخل مرحلة السعي منتصبا بثقة على قدمين ثابتتين شاقا طريقه سالكا السبل التي رسمت له، ولكن هل ينطبق هذا التوصيف المرحلي على مراكزنا البحثية التي انبثقت هادرة في أعقاب تغير السلطة الواحدية بسلطات ائتلافية وتوافقية وفرقائية؟
ولعل الاجابة تستدعي أن نمثل على ما تقدم بنموذج محدد له هالته البحثية الدولية المميزة وصفته الثقافية والعلمية وهذا النموذج هو( كرسي اليونسكو) الذي توسمنا فيه خيرا كثيرا كمؤسسة بحثية فتية، تشق طريقها وليدة مترعرعة في أجواء صحية مواتية تجعل محصلات ما ستؤديه من تطلعات وما تؤتيه من ثمرات وانجازات ممكنة وصميمية .
واليوم نتساءل وبعد مرور نيف من الاعوام واكثر على انبثاقها، هل بلغت مرحلة الوقوف على قدميها خارجة من شرنقة التصير والنشوء؟ وهل أسهمت في أن تؤتي أكلها على الوسط البحثي الجامعي من أساتذة جامعة الكوفة والجامعات الأخرى؟ وهل طبع كرسي اليونسكو الباحثين داخل جامعة الكوفة بطوابع بحثية خاصة تجعل الاخرين من اقرانهم الباحثين في الجامعات العراقية يتنافسون للفوز بمثلها فيسارعون لنيل كرسي مثله أو على الاقل مكاسب هذا الكرسي نفسه والظفر بها؟ أم أن ما جاء الكرسي لتحقيقه في واد ومطامح هؤلاء وتطلعاتهم في واد اخر؟ وقبل ذاك نسأل هل هناك ثمرات ذات فيوض علمية هي نتاج التحاور والانفتاح والتعدد جناها التدريسيون الجامعيون الكوفيون كان موئلها ومصدرها هذا الكرسي؟ وهل بالإمكان أن نتحدث عن شخصيات بحثية اكاديمية علمية وطدت كفاءتها بنفسها فاسهم الكرسي في استقطابها وكان له دوره في التعريف بها علميا عربيا وعالميا؟ وبعد هذا وذاك من الاسئلة يأتي السؤال الاهم هل لوجود الكرسي جدواه العلمية والثقافية في واقعنا الراهن أو أن وجوده وعدمه سيان؟
إن هذا المركز البحثي بتميزه أسما ومعطى مفترضا، كان يتوقع منه أن يكون استزادة ثقافية لا أن يكون استفاضة ثقافية بدلالتها النقد ثقافية المتعلقة بعالم الاستهلاك والانتاج المعرفيين ..
ووفقا لـ (الاستفاضة) فان المتحصل منها هو الاشتغال على السلوكيات والقيم من ناحية الاجترار والركود والاحتواء والاقصاء والواحدية والشمولية .
وقد ذهب مجترح هذا المفهوم رالف لنتون الى ان الاستفاضة نزعة أو طابع أو سمة معينة، تنعكس فيها الثقافة أما بالتشدد بشكل مستميت للحفاظ على سلوك أو قيمة لم يعد بإمكانهما الاستجابة لمرتجيات الاغلبية العظمى من أفراد المجتمع وأما أن تكون دينامية حركية في مجال معين لكنها تركد في مجال آخر ومن ثم لا تستطيع أن تدرك حجم التباين في اختلاف وجهات النظر داخل الثقافة نفسها.
واذا كان مشهدنا الثقافي ما بعد التغيير قد شهد استبدال حكم ديكتاتوري بآخر تعددي تكتلي، فان انبثاق هكذا مركز مهمته اشاعة روح التسامح والتحاور انما هو مطلب بحثي حقيقي ومشروع ريادي على درجة كبيرة من الاهمية.
ولقد حاولنا مباصرة عدد من الاساتذة الباحثين في جامعة الكوفة او في غيرها من الجامعات عن متاحات ما قدمه هذا الكرسي لهم من فرص او مبادرات وهل عمل على شحذ قدراتهم في مجال تخصصاتهم او ولّد لديهم الحماسة للانخراط فيه؟.
وكذلك ناقشنا بعض المثقفين النجفيين وغير النجفيين عن جدوى هذا المركز وما الخطوات التي يخطوها باتجاه ثقافة التعدد والتحاور..
وبالعموم عكست الاجابات حالة واحدة ملخصها فتور التصور وخيبة الامل بإزاء تطلعات ولدت بولادة هذا الكرسي.. فما سبب تلك الخيبة وذلك الفتور؟ أ لان الكرسي لا يجلس عليه التعدد ولا يتربع على عرشه الحوار ؟
وبديهيا فان صناعة الاهداف والاشتغال عليها ليس مجرد روبرتاج تنويري ولا هو ترويج ترويحي وانما هو ارتهان بيداغوجي يستلزم دروسا تُفترض افتراضا اولا ثم تختمر اخرا لتصاغ كإنجاز لمعطيات عملية توجه صوب الذات والاخر.
واذا كانت الكراسي والمناصب هي ابواب مشرعة تمكن الذات من ان ترى نفسها في مرآة نفسها؛ فان علينا ايضا ان نحاذر من الانزلاق في التذوتن لأنه متى ما زادت حدة النظر في المرآة انقبلت الذات الرائية الى ذات نرسيسية لتنسيها الواقع وتغريها بالمنعكس الوهمي وبذلك تتفاقم نزعة الانا وتتضخم وقد تطغى ولكنها وقتذاك لن تضر الا نفسها ولن تنتقل عدوى ضررها إلى غيرها.
وغالبا ما يقع في هذا المطب ذلك الذي يهوى التمرئي متعملقا برئاسة هنا أو تسلق منصب هناك لتتجسد باسمه وهيأته التعددية المأمولة والحوارية المرجوة !!.
ولن يدوم أمر تصدى له واحد لينفع المجموع حتى لو كان ذاك الواحد عملاقا سوبرمانيا لان منطق الاشياء يحتم التقعيد على اثاف من آخرين يشتركون ويعملون بروح غيرية وعندذاك ستتوطد قاعدة هذا الامر ويركز الكرسي فلا ينزوي ولا يفتر، بل سيغدو اشعاعا ينير للسالكين دروبهم فيأتون إليه قاصدين على هدى انواره ليتمتعوا بقراه لا مجرد صور باهتة وفيديوهات مفبركة عن انجازات واخبار نصفها معلن ونصفها متوار..
وان جلَّ ما ندعو له هنا أن نتفاعل مع بعضنا من دون أن نذوتن انفسنا ولا نشخصن ذواتنا على حساب غيرنا وعندها لن تغدو الحوارية مجرد لبوس نتمظهر فيها بيسر ونتخلى عنها بيسر.
وما التقليل من حدة الذوتنة إلا مطلب علمي لا يخالفه أي أكاديمي مستجد أو عريق وهذه التصورات هي التي صنعت مسارات المراكز البحثية الغربية المنتمية للأوساط الجامعية.
واذا كانت ولادة كرسي اليونسكو خطوة فردانية سعت الى اشاعة التعدد والحوار فان المتوقع لها ان تكون متبوعة بخطوات غيرية تنطلق أول ما تنطلق من الوسط الذي انبثقت فيه تحاور اصحابه وتعاضدهم آخذة بأيدي المثابرين منهم نحو التميز المرجو نشرا وتعضيدا ومشاركات.
وإجمالا؛ فإن تساؤلا مفتوحا نطرحه هنا لنضعه أمام الباحثين والمهتمين، مستطلعين آراءهم عن مستقبل الكرسي ومقدار ما أُنجز فعليا من طموحاته اليونسكوية على الصعيد المحلي أو ما صور لنا من انجازاته التحاورية على الصعيدين العربي وغير العربي ..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة