هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 5
الفصل الأول
الأسرة والنشأة
العائلة ، مرحلة الطفولة ، أختي وإخوتي ، كبار رجال العائلة ، مرحلة الإعدادية ،
مرحلة كلية الهندسة
مرحلة كلية الهندسة
كان والدي يؤكد علينا انا وأشقائي ان نبتعد قدر الامكان عن العمل الحكومي التقليدي ، وان يكون تكسبنا من التخصص المهني في القطاع الخاص لما فيه من فوائد مادية ونفسية ، ولعله كان في ذلك يقول لنا ان ما واجهه من معاناة في الخدمة الحكومية الوظيفية ، لايريده ان ينتقل الى ابنائه فيواجهون ما واجهه من تعب وعداء وحسد مهما كانت درجة خدماتهم ! . كما يبدو ان هذا الامر شمل ابناء اعمامي ايضا .
دخلت كلية الهندسة في بغداد عام 1946 وانا في الثامنة عشرة من عمري ، وكانت عندي رغبة في دراسة هندسة البناء وهي رغبة والدي نفسها ، و قدمت الى كلية الهندسة وفق حصة لواء كركوك الذي كان والدي متصرفا له ، وهي اربعة طلاب وكان رقمي ( 5 ) احتياط ، ومن حسن حظي ان احد المقبولين الاربعة حصل على بعثة دراسية الى الولايات المتحدة ولم يجد كفيلا ، فأوعز والدي الى رئيس البلدية ان يجد كفيلا لهذا الطالب ، وفعلا تقدم احد كبار تجار كركوك لكفالة السيد حسن الدده مما سهل التحاقه بالبعثة العلمية، وهكذا دخلت كلية الهندسة . الا اني فجعت بعد اسابيع قليلة بوفاة والدي المفاجئة، كانت الوفاة بسبب انفجار شرياني في الدماغ ، وهو عائد بالسيارة من مهمة رسمية من بغداد الى مقر عمله متصرفا للواء كركوك ، كان الحادث قاسيا علينا ، ولم اصدق الخبر في البداية ، ولازمتني تلك الصدمة طيلة السنة الاولى من دراستي في كلية الهندسة ، ثم اخذ الامر يعود الى طبيعته مع مرور الايام . واصبحت آنذاك اكبر اخوتي في البيت ، واصبحت والدتي تعتمد علي في تدبير الكثير من امور البيت ، لان اخي الكبير قحطان كان قد التحق بالبعثة العلمية في بريطانيا منذ سنتين . وكانت تلك البداية في مواجهة صعوبة الحياة ، كان الامر صعبا في التوفيق بين الدراسة ومطالب الأسرة ، غير ان قوة ارادة والدتي وحكمتها كانتا من اسباب نجاحنا في هذه الفترة وما تلاها.
التحقت بالشعبة ـ أ ـ في الصف الاول من الكلية ، ومعي في الصف اوائل الطالبات العراقيات المقبولات في كلية الهندسة ، ومنهن سعاد علي مظلوم وجوزفين غزالة وطالبة يهودية ، ومن الطلاب اذكر هنا عددا من الطلاب الاردنيين مثل احمد فوزي الذي اصبح فيما بعد امينا للعاصمة الاردنية ( عمان ) ، وسعيد بينو الذي اصبح وزيرا للأشغال العامة في الاردن ، وعمر عبد الله دخقان الذي اصبح وزيرا للموارد المائية في الاردن ، وابراهيم عطور الذي اصبح وكيل وزير الزراعة ، ويحيى حديدي الذي اصبح من رجال الاعمال الكبار في الاردن . كما تعرفت على طلاب عرب آخرين ، ومن دول اسلامية مختلفة كزنجبار وسوريا ومنهم عبيد عبدالله سيف ويحيى الصالحي .
. ابهرني بناء كلية الهندسة الواقعة في منطقة الباب المعظم ، بناء مهيب مشيد من الطابوق بشكل تقليدي متميز ، وذات واجهة واسعة ، أعمدتها الأمامية الممتدة على طول الجبهة بارتفاع طابقي البناية ، لتكسبها منظرا رصينا مؤثرا في نفس الرائي وممرات عريضة وطويلة تضم ابواب الصفوف ، وتجعل من الممرات فضاءً للقاء الطلبة في فترات الاستراحة بين الدروس . اما الصفوف فقد كانت واسعة ، وتضم اثاثا بسيطا توفر للطالب الاجواء الدراسية الملائمة . وتضم الكلية قاعات مختلفة للمكتبة والمناسبات الاجتماعية والرسم والمختبرات ، اضافة الى الساحات الرياضية بين ابنية الكلية ، وكنت امارس رياضات عديدة ككرة التنس وكرة القدم ولعبة “الهوكي” مع زملائي الطلاب الذين كانوا يمثلون الشعب العراقي بكل اديانه وقومياته ومن جميع محافظات العراق.
كانت اجواء الدراسة في كلية الهندسة نموذجية للغاية ، حيث كانت منطقة الباب المعظم تعج بمؤسسات ثقافية وعلمية شهيرة ، اضافة الى كلية الهندسة مثل كلية الحقوق ودار المعلمين العالية والكلية الطبية ومعهد البنات والمتوسطة الغربية والمكتبة العامة ذات التصميم الجميل . والاجمل في هذا المشهد ,الاف الطلاب عند توجههم الى تلك المراكز العلمية والثقافية صبيحة كل يوم وعودتهم عصرا .
كانت الدراسة وأساليبها ومدرسوها في كلية الهندسة تختلف تماما عن ما اعتدنا عليه في المراحل الدراسية السابقة ، فكان كل استاذ يقدم مادة محاضرته وفق اسلوب الجامعة التي تخرج فيها ، الا ان بعض اساتذتنا من حاملي الشهادات العليا في الهندسة كانوا حديثي العهد بالتدريس . عميد الكلية للسنوات الاولى كان الاستاذ الفاضل ( داود قصير ) يساعده المعاون الاستاذ ( بهجت النقيب ) . ومن المدرسين الافاضل الذين نهلنا من معرفتهم الفنية والعلمية ، مدرس الرسم الهندسي الهندي المستر ( ليمزدون ) ، وهو من مهندسي المساحة الهنود الذين جاءوا مع الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الاولى ، واستقر في بغداد . ومدرس الرياضة ( بهنام باسيلوس ) وهو من المدرسين المهنيين . ومدرس هندسة الميكانيك او الفيزياء الاستاذ ( محمد عبد اللطيف ) وهو من مدينة الحلة تخرج في دار المعلمين العالية بامتياز ، واتهم بعدئذ بكونه احد العناصر الشيوعية القيادية ، وكان يستغل اقامته في القسم الداخلي للكلية لعقد الاجتماعات الحزبية السرية . اما مدرس الكيمياء فقد كان الاستاذ ( ابراهيم جيفري ) وهو من مدينة العمارة ، اكمل البعثة العلمية في بريطانيا ، وكان متميزا بإحاطته التامة بموضوع تخصصه ، وهو مدير فرع شركة صناعات الكيمياويات الامبريالية ICI ) ) العملاقة في بغداد . ومن مدرسي واساتذة الصف الثاني الاستاذ ( محمد مخزومي ) مدرس نظرية الانشاءات ، وكان مهندسا متميزا ويعمل مهندسا استشاريا اضافة الى مهنة التدريس . والاستاذ ( اوزنيان )مدرس علم التربة وهو استاذ خبير بموضوع علوم التربة . والاستاذ ( بهجت النقيب ) مدرس المثلثات الفضائية وكان معاون العميد لشؤون الطلاب . واستقدم مدرس كندي الجنسية لتدريس مادة الهيدروليك في الصف الثالث. وكان مدرس تصميم المباني ( سعيد علي مظلوم ) ، وهو مهندس معماري معروف ، كان قد عاد حديثا من جامعة ليفربول في بريطانيا . وفي علوم تصاميم الكونكريت والخرسانة كان مدرسنا الاستاذ ( فرج تاجريان ) ، وهو من اسرة اشتهرت باختصاصاتها الهندسية ، حيث يعمل اخوته بأعمال المقاولات الهندسية واعمال الخرسانة المصنعة . واتذكر ان عمادة الكلية عهدت الى الاستاذ البريطاني ( ريتشي ) وانا في المرحلة الثالثة والمرحلة التالية ، وهو استاذ قدير هندسيا واداريا . وكان الاستاذ( شريف يوسف ) معاونه ، والاخير من خريجي تركيا وصاحب خبرة كبيرة في اعمال البناء ، وله مؤلفات عديدة في علوم هندسة البناء وتاريخها . لقد كانت الدراسة باللغة الانكليزية ، وجميع المراجع بهذه اللغة في جميع المراحل الدراسية ,كانت توزع علينا مجاناً .
في مرحلة حياتي في كلية الهندسة ، كنت اجمع بين تلقي العلم وممارسة حياتي كشاب مقبل على مباهج الحياة والانشطة الاجتماعية المختلفة . ولم اكن من الطلبة الاوائل ، الا اني لم اتخل عن المستويات المتقدمة ، وكنت اعتبر معدل درجاتي وهي 75 بالمئة كافية لي ، وقد سميتها (Gentleman Degree ) ، وكنت اخصص اوقاتا لألعاب الرياضة والفنون والحفلات والسفرات . وقد لعبت مع فريق الكلية لكرة القدم بمركز شبه وسط ، كما لعبت كرة الطائرة والتنس وأحد لاعبي الكلية في لعبة الهوكي ، اضافة الى ممارستي السباحة منذ طفولتي ، ومقابل هذا حافظت على مستواي العلمي المتقدم . ومن زملائي طلاب الصفوف المتقدمة في نشاطي الرياضي اذكر حسن محمد علي بلعبة التنس ، ونزار النقيب وحلمي المفتي وسعدون القصاب بكرة القدم ، اضافة الى اسماء اخرى كنوري محمد رضا ورسول الاسترابادي وعبيد عبد الله سيف (من زنجبار) وانطون هندي . وكنا نشترك في الاستعراضات والسباقات الرياضية السنوية ، وكان مدرسنا لعلوم هندسة الميكانيك الاستاذ ( فؤاد طرزي ) وهو فلسطيني من خريجي بريطانيا وجاء الى العراق بعد نكبة فلسطين عام 1948 ، هو كذلك مدربنا ورئيس فريقنا الرياضي .
كانت دورالسينما الملاذ الوحيد لنا في عطلة نهاية الاسبوع ، اذ لم نكن نهتم بما في بغداد من مراقص او ملاهٍ او محلات الشرب او بيوت المتعة . وكانت سينما غازي في الباب الشرقي من اوسع سينمات بغداد واشهرها ، ثم تأتي سينما الوطني والزوراء والرشيد وسينما الملك فيصل الصيفي في الصالحية عند رأس الجسر وغيرها . وكنا ننتظر عرض الافلام الامريكية والبريطانية لأسابيع عديدة بعد ان نقرأ عنها في الصحف والمجلات العربية . وكان الذهاب الى السينما مناسبة اجتماعية ممتعة للغاية ، حيث يتم حجز ( لوج ) مكون من عدة مقاعد مريحة ، وعندما نصل الى دار السينما كنا نجد عوائل معروفة قد حجزت هي الاخرى اماكن لها ، وقد شاهدت باهتمام افلام ( ذهب مع الريح ) و ( دماء ورمال ) و( لمن تدق الاجراس ) للكاتب الامريكي هامنكواي ، وكانت تستهويني افلام القصص العالمية المشهورة والافلام الحربية والجاسوسية ونحن خلال فترة الحرب العالمية الثانية. ومن الممثلين الذين كنت اتابع افلامهم ( بيتي كريبل ) و ( كاري كوبر ) و ( تايرون باور ) و ( كريتا كاربو ) وغيرهم . وضمن العائلة ، فإن اللقاءات والرحلات والزيارات المتبادلة كانت كثيرة ، فمن عمري كان ابناء عمي امين زكي وهم عادلة وامل ومأمون ورجاء. وأبناء عمي صبيح نجيب العزي بثينة وسهيلة وزهير ، ومن الاقارب ايتن ابنة مهدي الرحال واخوها خالد الرحال وكذلك خلدون الرحال ، وابن عمي منذر فضلي العزي .
لقد كانت الافكار الشيوعية متغلغلة بين طلاب كلية الهندسة وكانت هي الصفة السياسية الغالبة فيها . نعم كنت اعرف العديد من الاسماء الشيوعية اللامعة في الكلية ، ولاسيما في الصفوف المتقدمة (مثل الطالب الكردي عمر دبابة الذي اصبح فيما بعد من قادة الحركة الكردية) ، الا ان اغلبهم اكمل الدراسة
الجامعية واصبح من المهندسين الذين يشار اليهم ، عدا طالبة يهودية القي القبض عليها اثناء امتحان نصف السنة بالصف الاول ، ومن ذلك الوقت اختفت ولم تلتحق بالكلية ابدا وربما تركت العراق .
كنت اشعر ان اغلب طلاب الكلية يحمل افكارا تقدمية وينظرون الى القضايا المختلفة نظرة منفتحة ومتطورة ، وكنت اميل الى هذا الفريق وفي الوقت نفسه كانت الدعوة الى محاربة الاستعمار وعملائه في أوجها . كما ان عددا آخر من زملائي كان من تيارات اخرى مثل زميلي عفيف الراوي وكان من الطلاب البعثيين ، وعدنان رانية من الاخوان المسلمين ، وخيري الدين الملا حمادي من القوميين . اما انا فلم افكر مطلقا بالانتماء الى اية حركة سياسية ، كما لم يفاتحني احد من اصدقائي الحزبيين بالانتماء الى حزبه ، لعلمهم برفضي التام لهذا الامر الذي استمر الى يومنا هذا . وعندما اندلعت وثبة كانون الثاني 1948 ، كانت كليتنا مع الكليات المجاورة في طليعة التظاهرات الكبيرة التي اندلعت ضد توقيع الحكومة العراقية ، وكانت برئاسة صالح جبر ، على المعاهدة العراقية البريطانية
في (بورت سموث ) في انكلترا ، على الرغم
من الاحتجاجات الشعبية التي قادتها احزاب
المعارضة الوطنية ، ومنها الحزب الشيوعي السري . واتذكر كيف كان الطلاب يتجمعون في منطقة الباب المعظم التي تنطلق منها التظاهرات الصاخبة بتشجيع من ابن خالتي خالد السلام ، وترفع الشعارات العدائية
للحكومة مطالبة بإسقاطها والغاء المعاهدة . وقد استمرت التظاهرات لعدة ايام ، وعند عدم خروجنا للتظاهر كنا نتجمع في كافتريا الكلية الطبية مع اصدقائنا من طلبة تلك الكلية . وفي يوم 28 كانون الثاني وكانت الدراسة معطلة على ما اذكر ، واثناء تجمعنا في الكلية الطبية ظهراً للاستعداد للتظاهر ، سمعنا اصوات الاطلاقات النارية الكثيرة مشيرة الى حدوث مواجهات عنيفة في شارع الرشيد واماكن اخرى ، لم تتردد الشرطة باستخدام الرصاص ضد المتظاهرين ، كما سمعنا ما حدث على الجسر العتيق الذي سمي فيما بعد بجسر الشهداء من اطلاق النار على المتظاهرين العزل ، وبدأت اعداد الجرحى تزداد ، فاسرعنا بتأليف هيئة التبرع بالدم ، ولما كان صنف دمي ( O ) يناسب الكثيرين فقد كنت في مقدمة المتبرعين . وفي عصر ذلك اليوم صدر قرار منع التجول ونحن لم نزل في الكلية الطبية ، فعدت مع خلدون الرحال مشيا على الاقدام الى البيت في الاعظمية ، وعند وصولنا الى منطقة الكسرة رأيت قدوم سيارات كثيرة الى البلاط الملكي ، كما رأيت سيارات الشرطة المسلحة في منطقة رأس الحواش في الاعظمية تقوم بتوزيع منشورات تؤيد المعاهدة وتهاجم الحركة الوطنية. الا ان مؤتمر البلاط كان قد اصدر في تلك الليلة الرهيبة اراده ملكيه بإقالة وزارة صالح جبر .