عندما كنا نطالع مسرحيات وليم شكسبير في مقتبل اعمارنا سواء النص الانجليزي الذي ندرسه في الاعدادية، او النصوص المترجمة، كانت تأخذنا الدهشة من روعة وجمالية المفردات التي اختارها الكاتب لسرد مسرحياته الخالدة، ومن شدة تعلقنا به، صدقنا حكاية أصله العربي وان اسمه (شيخ سمير).
اسرد هذه السطور وانا اشهد اجتياح المفردة السوقية للبرامج والمواد الاعلامية التي تنتجها الفضائيات والاذاعات العراقية بنحو غير مسبوق، الى درجة انها تتسابق في طرح مفردات ربما كانت تحتاج الى جرأة لتمريرها عبر وسائل الاعلام.
القصة بدأت مطلع التسعينيات مع صعود المسرح التجاري، الذي فتح الباب واسعاً امام مفردات الشارع لتحتل الخشبة، التي من المفترض انها تمثل عرش الفن الاول، لكن هذا الفن الراقي تحول الى فن استعراض اجساد العاهرات لمحاكاة الغرائز والهدف كسب المال لااكثر.
وبدل الصعود الى لغة المسرح العالية نزل المسرح الى لغة الشارع المتدنية المليئة بالمفردات السوقية مثل الشتائم بانواعها والايحاءات الجنسية والالقاب الوضيعة والامثلة كثيرة، وفي اواخر التسعينيات ظهرت تجربة افلام السكرين التي تشبه الى حد كبير المسرح التجاري وانتجت عشرات الافلام التجارية التي لم يكتب لها النجاح، وانتقل الامر الى الاغاني الهابطة على وزن العكربة وغيرها التي أفسدت اذواق اجيال عراقية متعاقبة.
وبعد الانفتاح الاعلامي الكبير الذي رافق تغيير النظام السياسي في نيسان 2003 توسعت قاعدة الاعلام العراقي، وضعفت او انعدمت الرقابة، وانتقل فايروس الهبوط من المسرح والفيديو كليب الى التلفزيون والاذاعات، وبالتحديد الى البرامج الترفيهية والمنوعة، التي استعانت بعضها بفنانين كوميديين نقلوا تجربة (المسرح الهابط) ليبرعوا في صناعة (التلفزيون الهابط)، وهو هبوط من اجل كسب جمهور تافه، وتتفيه جمهور آخر على استعداد للتفاهة، وبالتالي سقوط الشاشة الفضية.
والطامة الكبرى ان الهبوط في اللغة الاعلامية والتلوث السمعي البصري التلفزيوني لدينا يبلغ ذروته في شهر رمضان المبارك، حيث تظهر عشرات البرامج الخالية من الهدف والرسالة، والمليئة بالمفردات السوقية المعبرة عن بؤس، واحباط، وتشكيك، وتفكك مجتمعي، ومن خلالها يتم استجداء الجمهور غير الواعي في كوميديا تثير الشفقة.
اما مقدمات ومقدمي هذا النوع من البرامج (الترفيهية الرمضانية)، فهم قضية في حد ذاتهم، حيث تغيب معايير اختبار جمالية الصوت وصلاحيته، وتغيب معايير سلامة اللغة العربية وجودة الالقاء، ومقبولية الشكل، ولانرى الا اجساد انثوية تتصنع الميوعة ووجوه فتيات بطبقات من مساحيق التجميل، يتوزع عليها كل ماهو اصطناعي من رموش، وعدسات لاصقة، وشعر طويل مركب، ناهيك عن نفخ كل ماهو قابل للنفخ، والعبث بما خلق الله الى الحد الذي يصدق عليه رأي المثل العراقي (لاعب بنفسك خلقة).
هذه البرامج اظهرت لنا جيلا من الاعلاميات اللواتي لايجدن سوى (القهقهة) و(الكركرة) و(الغنج المصنع) و(تسفيط السوالف المجترة)، وتقليد التقليعات اللبنانية للبرامج المشابهة على طريقة (الكوبي الرديء) الذي يصنع جمهورا رديء الذوق.
اما الاذاعات فهي قضية اخرى لاتقل خطورة عن شاشات التلفزة، وهذا كله يدعو المهتمين والحريصين على الذوق العراقي، وعلى الهوية العراقية، وعلى معايير الجودة الاعلامية، ان يكون لهم موقف.. ورأي.. في الاقل، والا فزحمة من شيخ سمير… الذي علمنا التذوق السليم للمفردة السليمة.
عباس عبود سالم
نسخة منه إلى…
التعليقات مغلقة