قراءة في جدل الدكتور عبد الناصر هلال

تداخل الأنواع الأدبية وشعرية النوع الهجين
أ.د.بشرى البستاني

تداخل الأنواع الأدبية، وشعرية النوع الهجين، هو عنوان كتاب الأستاذ الدكتور عبد الناصر هلال أستاذ النقد في كلية الآداب بجامعة حلوان / مصر، الصادر عن النادي الأدبي بجدة، والذي يطرح قضية نقدية معاصرة ومهمة، كونها تعبر عن خاصية أفرزتها مرحلة ما بعد الحداثة بانهيار الحدود الفاصلة والعوازل الشائكة والقيود الصارمة التي تفصل جنسا عن جنس، وذلك لاشتباك فنونها ومعارفها، والسماح بعبور فن على فن، ونوع على آخر، بحيث صار هذا التراسل والتضايف بين الفنون، إثراء وإغناء لكلا الفنين وحوَّل النص من الأحادية النوعية إلى الإشكالية التي يعيشها الإنسان المعاصر في ظل حضارة مادية فوضوية مأزومة صادمة استلبته الشعور بالأمن والطمأنينة وملأت حياته بالقلق والحروب والاضطهادات والفوضى والضجيج، ونتيجة انتقال الفن إلى حالة الأزمة المرافقة للإنسان كان لابد من الانتقال بقراءته كذلك من مستوى التلقي التفسيري إلى المستوى التأويلي الذي تطلب من القراءة التحول من أفق تلقيها المحايد إلى أفق يتسم بالثراء والثقافة المعمقة والمرجعيات الأدبية والفنية والمعرفية المتكاملة لتستطيع مواجهة نص جديد في بنيته وفي تشكلاته، نصٍّ شبهه ناقد فرنسي بالوحش، فما على صياده الا التزود بعدة وآليات ذات قوة وتمكن من أجل مقاربته باقتدار.
إن الحركة هي السمة الطبيعية للحياة ولكل منتجاتها الجادة، ولعل من غير الطبيعي أن يسير النص الأدبي على وتيرة واحدة مادامت الحياة تتغير باطراد، وما دام النص هو المنتَج المعبر عن وتيرة ذلك التطور من خلال قدرة مبدعه على احتواء روح عصره والنبض بها، فكيف لو كان التطور ذا سرعة مذهلة مدهشة نوعية وفي مجالات الحياة كافة، كما يجري الحال في العصر الراهن، فقد انفجر إيقاع الحياة وصار تداخل كل شيء بكل شيء هو الأمر الواقع، فلم تعد تلك الجدران الصلدة قائمة للفصل بين فن وفن، وصارت الأنواع الأدبية مفتوحة على بعضها تتضايف وتتواشج مفيدة من كل ما ينسجم وتجربة الإنسان الجديدة وهي تشتبك بانفعالاتها ومشاعرها، بخيباتها وتطلعاتها ومكابداتها، وصارت علاقة الإنتاج الدلالي كما يؤكد الدكتور هلال تتميز بالحركية من خلال جدل أطرافها الدائم: المرسِل – الرسالة – المرسَل إليه – هذه الحركية تؤكد حيوية النص وعمقه، وتفتح أفقًا قرائيًا، يتسع كلما تحققت هذه الجدلية عبر مكوناته الجمالية التي تحقق لذة يجتهد المرسَل إليه في إنتاجها، فالنص الفني ليس كتلة جامدة، أو مادة سائلة، يمكن صبها في قوالب معدة سلفًا، وإنما يتجول المتلقي في عالم النص حسب طبيعة ذلك النص،يقول ميخائيل باختين وهو يؤكد حوارية الأجناس والأنواع وعدم نقائها: «إنه (الخطاب) أسيرٌ مخترقٌ بالأفكار العامة، والرؤيا، والتقديرات، والتحديدات الصادرة عن الآخرين، موجهاً نحو موضوعه، يرتاد الخطاب تلك البيئة المكونة من الكلمات الأجنبية المتهيجة بالحوارات، المتوترة بالكلمات والأحكام والنبرات الغريبة، ثم يندس بين تفاعلاتها المعقدة، منصهرًا مع البعض في تكوين الخطاب وفي توضيحه داخل جميع طبقاته الدلالية، وفي تعقيد تعبيره وتعديل مجموع مظهره .(الخطاب الروائي، باختين، 52)
وإذا كان الشعر المعاصر قد انفتح على فنون كثيرة، منها اللوني التشكيلي والموسيقي وعلى الأغنية وفنون السينما ضوءا وظلا ولا سيما فني المونتاج والسيناريو، فإن انفتاحه على السرد يفوق كل ذلك، مادام السرد هو القاعدة الأساسية التي تتصدر عملية التواصل الإنساني في الواقع وفي الفن عموما، وما دام الإنسان هو الكائن السردي بامتياز؛ ولذلك يؤكد الباحثأن النص الشعري يحدد اتجاه قراءته عبر أدوات تنبع من ذاته، لذلك فإننا نؤكد أن منهج التحليل السردي- أو بعض إجراءاته- قابلة للعمل في تحليل النص الشعري، الذي يقوم على التنوع بين تقنياته . وقد قُسّمت الدراسة إلى مدخل نظري تمَّ فيه عرض مفهوم الشعر وعلاقته بالنثر والحدود الفاصلة بينهما من خلال آراء النقاد القدامى. ثم عرض لمفهوم النوع الأدبي، وعلاقة الشعر بالأنواع الأخرى، ثم علاقة الشعر بالسرد، وكشفت عن ملامح هذه العلاقة من خلال علاقة الشعر القديم بالسرد.
اتسم خط سير البحث بالرشاقة والتماسك، فنحن نجد المقدمة التي وفت بمحاورها في تأكيد أهمية الموضوع وعرض طرائق اشتغاله، ثم المدخل الذي عاد بتأسيسه لمفهوم الأجناس إلى أرسطو حيث وضعت الخطوط الأولى للتفريق بين الشعر والنثر بوصفهما موقفا جماليا للمبدع من مفردات الوجود الشاخصة حوله، كما عمل المدخل على توضيح موقف النقاد العرب من مصطلح الشعر عبر التراث النقدي العربي القديم بادئا بابن قتيبة الذي جعل حد الشعر في أوزانه، فابن رشيق الذي نظر الى الشعر من خلال كونه فنًا، يحمل جمالياته الخاصة عبر مكوناته البنيوية وليس عبر المكون الجمالي كالوزن والقافية، ويرى أن الشعرية أعمق من هذا فيقول: «وإنما سمى الشاعر شاعرًا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استطراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه في الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه آخر، كان اسم الشاعر عليها مجازًا لا حقيقة ولم يكن له إلا فضل الوزن»(العمدة 99).
ثم كان ابن سينا الذي أضاف لتوصيف الشعر صفة التخييل مؤكدا أن المقدمة التي وصفها بالشعرية هي تلك التي توقع في النفس تخييلاً، لا تصديقًا /والتخييل هو انفعال من تعجب، أو تعظيم أو تهوين أو تصغير، أو غمٍّ أو نشاط من غير أن يكون الغرض بالمنقول إيقاع اعتقاد البتة،(فن الشفاء، 15/16) ثم كان المرزوقي الذي وسم (النثر) بوضوح المأخذ وسهولة المعنى والاتساع، بينما أشار أبو إسحاق الصابئ إلى صفة الغموض في الشعر، وفسر أسباب ذلك بالحيز المحدود الذي يسير عليه ومعنى البيت الشعري، والوزن، ويفرق ابن طباطبا العلوي بين الشعر بوصفه لغة الخاصة والنثر بوصفه لغة العامة، ويربط بين الشعر والوزن من جهة والنثر واللغة اليومية من جهة أخرى،(عيار الشعر، 42) وكان الباحث موفقا في تلخيصه لرأي أدونيس في الفرق بين لغة الشعر ولغة النثر إذ يرى الأخير أن هناك فروقًا أساسية بين الشعر والنثر، تضمن لكل منهما خصوصيته منها: أن النثر يتسم باضطراد الأفكار وتتابعها، في حين أن هذا الاضطراد ليس ضروريًا في الشعر. وثانيها ان النثر يطمح أن ينقل فكرة محددة، ولذلك يحتاج للوضوح، أما الشعر فيطمح أن ينقل شعورًا، أو تجربة، أو رؤيا، وذلك ما يجعله غامضا بطبيعته، وثالث الفروق أن النثر وصفي تقريري، ذو غاية خارجية معينة، ومحددة، بينما غاية الشعر في نفسه، فمعناه يتجدد دائمًا بتجدد قارئه.(زمن الشعر، 16).
ويؤكد الدكتور هلال أن النقد العربي قديما وحديثا اتفق على ارتباط الشعر بالمجاز لاعتماده على التخيل الذي يفارق الواقع ويتجاوزه، ويعتمد في تحققه على انتهاج النظام اللغوي، وانتقال اللغة اليومية، أو اللغة المعيارية إلى اللغة الشعرية. ثم ينتقل الباحث في محور «الشعر والنوع الأدبي» إلى الغرب ليعرض لنا ما توصلت إليه بعض المدارس أو التوجهات الحديثة في موقفها من الأنواع بدءا من الشكلانية وشعرية جان كوهن وجاكوبسن ثم الناقدة الألمانية هامبرغر في دراستها (منطق الشعر ) فأوستن وارين ورينيه ويلك ثم جاك دريدا وجيرار جينيت، كل هؤلاء أكدوا انهيار الفواصل وردم الفجوة القائمة في الفروقات التقليدية التي دُونت لتأكيد الأنواع وفواصلها، ونفت وجود الاختلافات الصارمة بين الشعر والفنون الأخرى، وما بين اللغة الشعرية ولغة النثر لان الفرق صار يكمن في بنية النص وجوهره، أما جيرار جنيت فقد وقف عند القضية مؤكدا أن مشكلة الأنواع ينبغي تجاوزها، وعدم تأويل النص ودراسته من منظور النوعية لأن الخطاب الأدبي يتم إنتاجه وتطوره «طبقًا للأبنية التي يمكنه تجاوزها لا لشيء إلا لأنه وجدها في مجال لغته وأسلوبه حتى اليوم»(التاريخ والنوع، 26).
بعد هذا المدخل ومحاوره المهمة، ينعطف البحث إلى المتن بدءا بتناول مصطلح الراوي الذي غالبا ما يعتمد ضمير المتكلم في الشعر انطلاقا من كون الحدث الشعري لا يشتغل إلا في صميم الذات، على العكس من النثر الذي يعتمد ضمير الغائب، ثم طرح قضية الراوي والمساحة السردية، وعرض السرد الجزئي اعتمادا على طبيعة حضور السرد في القصيدة، فمرة يحضر في مقطع فيكون جزئيا، وأخرى تُبنى عليه القصيدة ليكون كليا، ثم الوقوف عند عناصر السرد، الشخصية وأهميتها في النص بوصفها المحور الذي تتشكل بفاعليته الحركية ويتضح الفضاء، والحدث الذي يحرك السردَ بفعله مختزلا الزمان والمكان في فضاء ذلك الفعل، ومنعطفا الى الوسائل السردية في محوري الوصف والحوار، ومن اشكال السرد ومستوياته الى السرد البصري/ الطباعي الذي صار آلية سردية اعتمد عليها الخطاب الشعري الجديد في بنائه، فالخاتمة التي لخصت نتاج البحث،
ويواصل الدكتور هلال عبر فصوله مؤكدا أن هذا التهجين في النص وقع في ظل خطاب يقوم على فكرة التنافر والتلاقي والحوار والمناهضة والتوازي، وعلى فكرة التأسيس الخاص، والاختراق لهذا التأسيس في الآن نفسه، حتى يمتزج بالخطابات الأخرى، ويفارقها مكونًا بنية التآلف والتخالف، أو محاولاً عبر حالة التهجين أن يفتح لنفسه أفقًا يتأبى على الانغلاق والتحديد،مادام النص الشعري الحديث عبر مسيرته يتأبى أن يبوح بعالمه، إذا وضع تحت مجهر النقد، وإنما يصبح طيعًا إذا تحققت جدلية القراءة في ظل بنائيته التي تحولت من سياق الغنائي إلى سياق الدرامي، نتيجة لحركية النص الدائبة، ومحاولته الخروج على الأنساق البالية، الجاهزة، والرؤى المسطحة التي يقودها وعي مغلف بالرجعية الفكرية والتقليد.
لقدعرضت الدراسة لمفهوم النوع الأدبي، وعلاقة الشعر بالأنواع الأخرى، ثم علاقة الشعر بالسرد، وكشفت عن ملامح هذه العلاقة من خلال حضور ملامح السرد بالشعر منذ الشعر الجاهلي الذي تضمن ملامح سردية، وما يؤكد هذا المنزع توافر عنصر الحكي في القصيدة القديمة، وانتقلت الدراسة إلى علاقة الشعر المعاصر بالسرد وأوضحت أهم الأسباب التي دفعت إلى انتشار مثل هذا التوجه في النص المعاصر.
إن هذا الكتاب الذي اتسم بصفاء منهجه ووضوح الأسلوب الذي أدى به إلى خلاصة نتائجه، وإشراق لغته وسلامتها، ورشاقة مباحثه، اتسم كذلك بحسن اختياره للنصوص الشعرية وعذوبتها مما أفاض على البحث جمالا آخر.
وخلاصة الأمر أن الكتاب كما يؤكد غلافه، يطرح ملامح الاحتكاك الفعلي بين السردي من ناحية والشعري من ناحية أخرى عبر تقنيات تؤكد حالة التواصل وتعلن أن الخطاب الشعري الحداثي خطاب شمولي/احتوائي كثيف يعتمد – من بين أدوات تشكله – على آليات السرد التي تسهم بدورها في حركية النص وتترك نوافذ الانشغال والتأويل مفتوحة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة