اتسمت نصوص ( طغراء النور والماء ) بتوصيفات استعارية وقفت على هواجس الرؤيا الشعرية بإيحاءات علاماتية واضحة ، أحياناً نشعر انها تأملية منبثقة من صلب البناء اللّغوي ، واحياناً نلمس انها لعبة لغوية مفادها انها تستعير العلامات المكونة للأشياء لحظة استعارتها وتوظيفها في الجملة الشعرية ، ولاشك في ذلك انه يمثل نزوع نحو إعطاء نص شعري أكثر تجريداً ورؤية : ( في قصرٍ لك / في (( سُرّ من رأى )) / نامت لثلاث ليالٍ / مربياتُ ملوك صغار / على شفا حوض / يغسل الزمرد بالخمر / فيشرق منها / من الزمرد والخمر / كلامٌ من الضوء / وآخر من الظلام ) ص21 .
نلاحظ هذا التداخل البائن في بنية الجملة الشعرية من خلال إعطاء وظائف تنساق من خلال الفعل الذهني إلى تأملات مجازية تأخذ على عاتقها بناء الصور بانزياحية عالية، الأمر الذي أعطى مدلولاً واضحاً لجميع النصوص وهي تقوم على وحدة النسق ، فـ ( الزمرد … الخمر … كلام من الضوء … وآخر من الظلام ) ، إنما تأخذ من خلال تحليلنا النقدي بالتوصل إلى أسلوبية الشاعر القائمة وعي اشكالوي ، إن لم نقل بان الجملة الشعرية لديه وجود روحي يرتبط بميتافيزيقيا العبارات المستخدمة كأدوات للتوصل إلى قصدية واضحة ، إنها قصدية استعارية تفتح رؤيا التشكل ، وما عسانا إلاّ إن نكشف مكامن ما يصبوا إليه ( عبد الزهرة زكي ) من تجربة جديدة لكنها تدور في ميدان عالمه الحلمي ، فالمجاميع السابقة برهنت على ذلك .
نصوص المجموعة – في الأغلب – مرهونة بالحس الإستعاري المتمثل بإنبعاث المعنى إلى ابعد منطقة ممكنة من اليقين المقدس ، إذ العبارات المتناولة فيها محمولات تتحلى بالوعي المتداخل بين الوجود وعدمه : ( رأى الفقير صورته / ملفوفة بالحرير الأسود / ومندثرة / بالنسرين وبالرعد / صورته هو الجسد اليابس / ينبثق / من بوقٍ / صنع في ظلام المياه ) ص69.
إن عملية تكرار بعض العبارات في نصوص المجموعة ، تعد صياغة لغوية جديدة تعتمد مرونة الإستعارة والكشف ، فهل هي فك لطلاسم المعنى ..؟ أم أنها إحالات مجردة تسير في طريقها عبر متوالية الإظهار …؟ لابد من معرفة معاني العبارات هذه ، ذلك لإكتمال المعنى لدى الأخر / المتلقي ، ولاننكر بأن ذهنية الشاعر انفتحت على عمق الرؤيا الشعرية الملتقطة بؤرة الموجودات الباعثة عن التساؤل ، أو بالأحرى عن فتح مغاليقها ، والعبارات هي ( لازوردي … القبان .. سر من رأى … زمرد … نسرين ، وغيرها ) .
نقرأ من صميم القسم الثاني ( رواية الهدهد ) النص الشعري ( حينما سها الهدهد ) لنكتشف كيفية صياغة معنى شعري هاجسي وهاج ، يقترب إلى الروح وما تشعر به من صفاء : ( وهو يخط / بريشةٍ من جناح الهدهد / قصيدة / عن الطبيعة والحكمة والجمال / سقطت ورقة نسرين .. / ورقة نسرين صفراء / في كأس الملاك / فانزلقت الكأس / سالت الخمرة على النهر / ذهباً من نسرين ) ص61-62 .
هكذا تحضر عبارات الشاعر وهي تبرهن استحضارات الأشياء وكشوفاتها عبر الرؤيا المتجلية ، أو إن ( هذه الرؤيا هي اكتشاف للعالم عبر المحمول اللّغوي ) (2) ، فكل العبارات في المقطع الذي أمامنا لها دلالاتها الهائمة على الـ ( ميتا .. شعر ) عن طريق الشعور الـ ( ما ورائي ) أو لذّة الشعور وانتعاشه ، مثلما تأخذ ورقة النسرين الصفراء تجلياتها داخللا القصيدة في كأس الملاك لتصبح خمراً ، كلّها رؤى استعارية / حلمية ، لا تقف عند حدود مرحلة تدوينية معينة بقدر ما تهيم في فضاءات مفتوحة ( اشكالوية ) لتأخذ أكثر من تأويل وتحليل .
في ( طغراء النور والماء ) ، ثمّة شفرات تحتاج إلى جهد نقدي متواصل ، لأن النصوص تمزج ثنائية الشعور بالمحسوس والشعور بغيره ، ليجعلنا ( عبد الزهرة زكي ) في دوامة تنقيبة متواصلة وهي لعبته حين يشعرنا بان الشعر هو مادة الخيال وان قوامه الأساسية لا تقف عند حدود فنية معينة مثلما نقرأ ذلك في الأساليب الأخرى لشعراء آخرين
1. علي حسن الفواز / الشعرية العراقية .. أسئلة ومقترحات / دار الينابيع . ص136 .
2. المصدر نفسه . ص131 .