زهير الجبوري
على الرغم من إن تجربة الشاعر عبد الزهرة زكي تنطوي على دلالات التجربة الشعرية المنفتحة على ذهنية النص المحدث عبر مرونة اللّغة الشعرية وسياقات الجملة الفاعلة والمعبرة عن قصدية واضحة ، إلاّ أنها تجربة تأملية مملية لشروط وضوابط كتابة النص الهاجسي ، وما قرأناه في المجموعة الشعرية ( طغراء النور والماء/2009) ، يبرهن على إمكانية الشاعر في خلق شحناته بواقع إحساسه بالأشياء وإمكانية التوغل إلى فضاءات عميقة ومجردة من المباشرة ، حيث اللّغة الشعرية المنطلقة من الأعماق إلى أماكن تخلق الصور المكثفة والمشفرة ، انها استكشافات علاماتية ، خلقت عبر تأملات واسعة ومتأينة .
ما يثير الدهشة ، إننا لا يمكن الوصول إلى ما يصبوا إليه الشاعر إلاّ من خلال فك ألغاز العبارات التي تعطي تأويلات عدّة ، فهي – أي العبارات – ذات بناء شعري ينتمي إلى خانة النص الحديث ، حيث المعنى لا يمكن التوصل إليه إلاّ من خلال الغور في أعماق الأشياء ، فهل هي فكرية .. ؟ أم فلسفية ؟ أم صوفية ..؟ .. كلّها لها حضور واسع في النصوص الموجودة في المجموعة .. وهذا ما يعطي لنا قناعة فحواها إن ( عبد الزهرة زكي ) شاعر يريد أن يفتح نصه الشعري إلى المتلقي المدرك بآليات الكتابة الشعرية ، إلاّ إن شمولية النص لديه لها رؤى فاحصة ودقيقة ، رؤى تتلئلأ بموسيقى الفضاء الذهني .
ولأن المجموعة هذه احتوت على نصوص ذات سياق مهاري واضح فإنها انقسمت إلى قسمين ، الأول ( نهار عباسي ) وهو نص طويل ، والثاني (رواية الهدهد) وفيه العديد من النصوص ، ومن هذا وذاك ثمّة استخلاصات وكشوفات بانت في نصوص المجموعة وهي تحمل تركيبات الصورة المجردة ومحاولة الوصول بالنص المكتوب إلى خانة الوصف المجازي عبر عرفانية اللّغة الشعرية ذاتها ، لنشعر في لحظة استرخاء بأن ما نقرأه هو عبارة عن جمل تتمرأى مع الذات لتحقق الحدس الشعري المعبر عن قضية كونية ، وهذا ما يسقط الكثير من الحشو الممل الذي يتمتع به الكثير من الشعراء .. حتى إننا حين ندخل إلى عنوان المجموعة نلمس جدلية ثريا النص بالنص ذاته ، ليشكل وحدة كاملة من كافة الجوانب .
حالة التأمل التي تمتع بها الشاعر أخذت عن كثب اجتهاداته في بناء جملته بتكافؤ دلالي متمحور على عوامل نفسية وسيميائية ، وهذا مايجعل استعارته للأشياء مفتوحة ربما لأن هناك مشتركات في ذلك ، انها مشتركات فنية تدخل في بنية الشاعر لتتشكل وحدته الشعرية في كتابة نصه الشعري .
في المجموعة هذه تتضح الكتابة بتوصيفات شعرية إلى مناطق مابعد قصيدة النثر ، أو بالأحرى ( تتجاوز ما يسمى بالنص المفتوح إلى النص الباعث على التعدد )(1) لذلك باتت جميع النصوص وهي محملة بأيقونات خالصة لذاتها ، حتى إننا ندرك من خلال الغور في أعماق النصوص ، أنها ذات نسق سيميوطبقي يستند على رؤى المعنى بدلالات اللغة المدونة . حتى إننا نقرأ في النص الأول ( نهار عباسي ) العبارات المكثفة والمستخلصة من رؤيا المعنى المجازي ، إذ يقول الشاعر :
وفي الصفاء العالي لمرآتك
امتزجت
قطرةٌ من دمعٍ بحبهِ إرز..
فيما على الجدار الذي لا يرى
كان قنديلٌ يضيء ،
ويحدق لهبُهُ الصموت
في هذا الامتزاج الغريب ( ص11 )
حين يقوم الشاعر بتدوين لحظاته الشعرية ، فهو ( هنا ) يرهن كشوفاته عن طريق تأملاته الصافية ، أنها تأملات مشحونة بموسيقى الفضاء المعبر عن صفاء الجملة الشعرية ، فكل العبارات المكونة في القصيدة ذات بريق واضح الدلالة ، فـ ( المرآة … وقطرة من دمع … والقنديل ) وغير ذلك في مقاطع أخرى يبرهن على أسلوبية الشاعر في بناء نصه ، وهكذا تتبلور شعرية ( عبد الزهرة زكي ) من الإنفعال الكبير بالمحسوس ، وكأن القصائد التي يكتبها على السطح أكثر لمعاناً وبهرجة ، أو هي منعشة وتمس جسد الأشياء البراقة ، لذلك تجد لها مصغٍ من طراز تأملي خاص .
تستدركنا نصوص المجموعة بقناعات التشكيل المستحضر على كشوفات التكثيف ، رغم إن البناء اللّغوي الذي اعتمده الشاعر قائم على تمويه يقتحم المتلقي عبر استذواق حاد جداً ، حتى إننا نقف أمام النصوص لنشعر أنها مشفرة وموحية ومثيرة للشهوة ، ففيها عبارات تحيلنا إلى عمق الأشياء المرتبطة روحياً ودلاليا بها ، مع تأكيدنا بأن ( عبد الزهرة زكي) يلف ويدور في ذلك ، فالقصيدة تشبهه ، بل تفضح صمته المتعالي وهو يكسر طوق الأشياء بصمت صارخ وبنظرات شديدة البلاغة ..