الاسلام السياسي مصطلح حديث يشار به الى الاحزاب والتجمعات الدينية التي تدخل ساحة السياسة والانتخابات وترى في الاسلام اطارا صالحا للحكم، وفي هذا المنظور تتوحد الجماعات الدينية، من الطائفتين المسلمتين، ومن اقصى اجنحة التطرف الى المعتدلين والكثير ممن يعدون انفسهم متنورين، وفي هذه الفاصلة تبرز الاشكالية الاولى من تضاعيف الحركات المتطرفة والاصولية التي اباحت وتبيح بناء السلطة الدينية بالقوة المفرطة بما في ذلك تنظيم المذابح للمدنيين من اتباع الشرائح والفرق المذهبية والدينية الاخرى، واجراءات تصفية الحياة المدنية للمجتمعات.
وما حدث في مصر، الثلاثين من حزيران، دورةٌ ذا مغزى في التاريخ، كان الاسلام السياسي يقدم، حينه، احدث انموذج تطبيقي له من على ماكنة جامحة، ظهر ان زيتها ليس كافيا للمضي اكثر من عام واحد.
هذا التوصيف لايمت بصلة الى البلاغة السياسية، انما الى بلاغة رد الفعل وقوانينه الفيزيائية (قانون نيوتن الثالث) والاجتماعية (التراكم) على حد سواء، حين يكون الفعل قد عبَر هامش المناورة الى حقل المواجهة، حيث حاول الاخوان إستعجال الغاء الدولة المدنية المصرية وتأسيس بنية دولة الخلافة على انقاضها، فاصطدموا بجدار المعارضة الموحدة، فلم يتراجعوا في الوقت الصح، وعندما تراجعوا بعد حين كانت الفرصة قد نفذت، وجاء حُكم رد الفعل وقراره في سيناريو يتكرر دائما، لكن باشكال مختلفة.
وبعيدا عن بيانات الترحيب التي تواترت على العهد الجديد، فان الاسلام السياسي الحاكم (والمحكوم) في دول مختلفة اصيب بذهول وخيبة وهو يتابع كيف تتحطم حصون انموذجه المصري الذي بدا كوصفة مشجعة لدولة اسلامية تتحقق عبر «جهاد» الانتخابات، بدل جهاد المعارك و»رباط الخيل» طالما تتمكن صناديق الاقتراع من تسويق شرعية ديمقراطية تتمدد الى سلطة وتشريعات واجراءات دينية، وهذه الشرعية كانت آخر ما تبقى في جعبة الرئيس الذي خلع محمد مرسي ليعيد، في اللحظات الاخيرة من حكمه، عقارب الساعة الى الوراء بالقول: «انا الشرعية والشرعية انا».
ردود الفعل الاولى المعبرة عن الامتعاض حيال انهيار حكم الاخوان المسلمين في القاهرة، دخلت في منطق الشراكة الطائفية غير المعلنة في مشروع حكم الاسلام السياسي، وحتى الرياض، لم تكن بعيدة عن دائرة هذا الامتعاض، ولم يقلل ترحيبها المبكر بمبادرة الجيش المصري من الاضطراب المعبر عنه في مواقف انصارها وإعلامها وأقنيتها الدبلوماسية، هذا فضلا عن اضطراب مراكز الدعوة للاسلام السياسي واحزابه ومرجعياته، وليس من غير مغزى ان يطلق دعاة من باكستان وشمال افريقيا نداء المراجعة لما حدث.
اما قوى التطرف والجهاد المسلح والتكفير والتجييش الديني فقد نعت تجربة الانتخابات وصولا الى حكم الخلافة، وهو موقف متوقع، اخذا بالاعتبار حقيقة ان هذا المعسكر (القاعدة. داعش وكل مسمياتهما) قد فشل، قبل ذلك، في اقامة دولة الاسلام السياسي (افغانستان. العراق) وانتهى الى وصفة للرطانة والجريمة والعنف، ليتشكل، في نهاية الامر، سؤال تفصيلي.. الى اين سينتهي مشروع الاسلام السياسي على يد داعش؟
انه سؤال لم يتأخر عن اوانه.. وليس سابقا للأوان، فان فشل اخوان مصر في التهيئة لدولة الخلافة قلـَب احشاء هذا المشروع وقذف بها الى كومة العقائد (والخيارات) المأزومة على مستوى العصر الجديد، اخذا بالاعتبار حقيقة ان التجربة المصرية الاخوانية العريقة تشكل محور هذا المشروع ومصدر الهاماته ومفرخة الجماعات والفِرَق التي تتبنى خيار اقامة الدولة الدينية، بما فيها تنظيم القاعدة. وليس سرا ان طلائع المقاتلين الاسلاميين في افغانستان كانوا من اعضاء تنظيم الاخوان المصريين، وان فتاوى التنظيم بشرعة القتال كانت خميرة تجربة حركة طالبان واقامة الدولة الدينية هناك.
ومن منظار موضوعي، ينبغي القول ان مشروع الاخوان لم يُقبر الى الابد، كما لم يبق الباب مواربا امام عودة الاخوان الى السلطة، وقد يحتاجون الى ثمانين سنة اخرى من الجهاد تحت الارض وفي محافل المعارضة لكي يعودوا الى القبض على معادلة السياسة في مصر، ولنلاحظ، ان عاما واحدا من حكمهم كشف عن تلك العاهة التي ضربت وتضرب المنظومات السياسية حين تصل الى الحكم فتقوم بطي وعودها التي تقدمها الى الجمهور، فلم يختلف حكم الاخوان من الصراع الفلسطيني الاسرائيلي (مثلا) عما كان عليه في حكم مبارك، حتى انه دخل وسيطا بين حركة حماس (التنظيم الفلسطيني للاخوان المسلمين) وحكومة نتنياهو غداة الهجمات العسكرية العقابية الاسرائيلية على غزة.
لقد حاول الاسلام السياسي المصري في عام واحد من الحكم ان يطبق بدائل ادارية حذرة تختلف عما كانت حركة طالبان قد اعتمدته وانتحرت فيه، وايضا عما يقوم به حكم الاخوان في السودان والذي انتهى الى نظام لا طعم له، والى عزلة خانقة وتخبط في السياسة والمواقف، غير ان جملة من الاجراءات والتعيينات الفئوية والاستعراضات الدينية، وطائفة من التأسيسات والتشريعات المبكرة لدولة الخلافة، استفزت القاعدة المتينة والراسخة للمجتمع المدني المصري الذي سرعان ما اتحد لسد الطريق على الاسلام السياسي من ان يحقق اهدافه، وسرعان ما انضمت اليه المؤسسة العسكرية، وثمة القليل من المتابعين من وقف عند مغزى وقوف الجيش المصري حائلا دون مرور مشروع الاسلام السياسي، فان «الجيش العقائدي» وحده مستعد للانخراط في مثل هذا المشروع، والجيش المصري لم يصبح عقائديا في ظل حكم الاخوان.
هزيمة اخوان مصر اعاد تركيب اشكاليات الاسلام السياسي، في مفصلها الرئيس الذي يتمثل في انتقال ثقل خيار اقامة الدولة الدينية الى داعش في ابشع تطبيق له: الخلافة الغاشمة.
إشكاليات الإسلام السياسي: «داعش» فصيل من فصائله كما هم الإخوان
التعليقات مغلقة