علوان السلمان
الابداع.. القدرة على التخيل عن طريق التوليف بين الافكار..والتجريب في كتابة النص السردي باب من ابواب الخلق الابداعي..بوصفه ممارسة تخييلية..واعية.. وضرورة جمالية مقترنة بالعصر واشكالاته واقتضاءاته الفكرية..لخلق نص منفتح على الفنون لاغنائه معنى ومبنى..بمغامرة المنتج باقتناصه اللحظة ونقلها الى المخيلة لنسج عوالمها بلغة تختصر المسافات لتحقيق عوالم تسعى الى تجاوز المألوف وتسهم في تعدد الرؤى النصية المتفاعلة ومعطيات الحداثة التي زحزحت النص عن ثوابته باعتماد مسارات جمالية ورموز تتجاوز مقصديتها الذاتية لتضفي عليه مديات واسعة باستفزاز الذاكرة ونبش خزينها..
وباستحضار النص القصصي(ابنة المحار وزبد البحار) المنشور على صفحات مجلة الاقلام عدد9 ـ 10/ايلول ـ ت1/1992..الذي انتجت عوالمه ذهنية منفتحة على آفاق اسطورية وتاريخية بكل تشظياتها الناتجة من وعي فكري وجمالي ونسجتها بوحدة واحدة انامل القاص ناجح المعموري..باعتماد البنية الحكائية والميثولوجيا في مواجهة الواقع باعادة توظيفها في البنية السردية بوصفها جزءا من نسيجه العضوي..فيتداخل الغرائبي والفنتازي والحكائي الواقعي.. مع ميل الى الاقتصاد اللغوي والتكثيف والايجاز..
(كان مستلقيا فوق محفته المصنوعة من اشجار الاولمب المقدسة وجمع من فتيات المعبد الالهي يحطن به ويرددن اغنية الاله الذي لا شريك له في مملكة أتانا.. وكلما انتهت الاغنية يوميء لهن فيما ودن ترديدها مرة اخرى..وعندما دخلت زوجته..ابنة المحار وزبد البحار حملته الفتيات من فوق محفته واقعدنه فوق كرسي نحت من حجر الاولمب الاسود..والقى بقدميه وسط حوض صغير متحرك..والفتيات منهمكات بتدليكهما..
انحنت قليلا امامه حاملة ابريقا فخاريا ..لمت كفيها وسكبت الفتيات فيها خمرا..صعدت سلمّه ورفعت يديها قليلا فكرع الخمرة ومن ثم لحس راحتيها وارتعشت من دغدغة لسانه اللزج وهو يلمس راحتيها المرطوبتين ..صاعدا نحو تكور اصابعهما نازلا نحو مركزيهما الملتمين مثل قعر اناء ابيض..)
فالقاص يعتمد في بناء نصه على اسلوب المراوغة المبطنة بالمفارقة لاستدراج المستهلك(المتلقي) صوب اللحظة الدالة على مفاتيح النص من اجل استنطاقه والوقوف على ماوراء مشاهده..فضلا عن توظيفه الميثولوجيا والحكاية في مواجهة الواقع ..ابتداء من العنوان النص الموازي المستل من بين سطور الحكي..لانه جزء من مكونات التجربة السردية المتوهجة بطاقتها الايحائية بصفته تقنية فنية لها دورها الوظيفي المميز بابعاده ودلالاته التي تحمل اشارات من الانتماء النصي الذي يترصد وهج الانفعالات ويعيد صياغتها بمظاهر الخطاب اسلوبا وبناء ودلالة مع استلهام المتناقضات التي تمتد على خارطة الجسد الاجتماعية بلغة تحيل الى عوالم اسطورية متخيلة فتكشف عن العلاقات والافكار بكل تجلياتها وتداخلاتها لتعلن عن كنه الانسان الذي يتشكل بفعل المتغيرات ويستجيب لها باعتبارها جوهر الوجود..
(احتضنته..مواسدة له فوق محفته المربوطة الى اربع روافع من خشب الارز في الشرفة المطلة على ساحة الاحتفالات في مملكته..شعرت بانها تعبة..منهدة من ضغط جوعها وحرمانها..واسمعته احاديث النسوة عن الابن الحقيقي للمياه العميقة..وهو ياتي الى مملكة أتانا مرة في ربيع كل سنة..يدخل بيوتها ويجد نسوتها منتظرات له..مترقبات عودته السنوية لاخصابهن..توسلت به كي يمنحها بذرته من اجل حياتها التي لا تساوي شيئا بدونها..اكتفى بصمته ولاذ بخوفه من البذرة التي ربما ستكون وتصير نارا تحرقه ويخسر عرش مملكته اتانا..فك اشتباك يديها حول صدره..وشمر بنفور وضجر وهو يسمعها تغني..
تعال وكن حبيبي الذي اخترت
امنحني بذرتك اتمتع بها
امنحني بذرتك
بذرتك المباركة.أأنس بها
ولتوقف نزيف الطمث الاسبوعي
وتبارك عمق جسدي بها..
يلتف حولها
وهي تكبر..لتنقذني من رائحة الدم
فالنص يخترق عوالم الشخصية الداخلي ويتابع فعالياتها الذاتية فيخلق حوارا منسجما والتكوين السايكولوجي للشخصية.. بلغة شاعرة..مكثفة .. رامزة.. فضلا عن التأكيد على المكان كوعاء فكري للذاكرة تدور فيه الاحداث وتتحرك فيه الشخوص ..اضافة الى انفتاحه على فضاءات متعددة تمنح متلقيها مساحة من الحرية التي هي(وعي الضرورة) كي يتمكن من الوقوف على شبكة علاقات لفظية رامزة بتفاعل يحيل الى التأويل..
(حمل خوفه من البذرة التي لو اسقطها لاحرقته مثل حطب الارز..تلك نبؤة عراف اتانا..هل يفرحها ببذرته ويخسر الى الابد شرفته الملكية وصولجانه الالهي؟ وينزع نياشين الفروسية والمصارعة وسباقات الركض ويغادر الى الابد خمرته ولذائذه الليلية..هز رأسه رافضا..لان ما يهمه هو ان يظل ملكا والها لاتانا ولا يريد ابنا يزاحمه على العرش..وعندما استعاد نبوءة العراف اعترته نوبة خوف وفزع من المستقبل..
التقطت ابنة المحار وزبد البحار همسته الرافضة والحت عليه متوسلة تارة وآمرة اخرى من اجل ان يفهمها السبب وعندما عرفته صمتت ومن يومها والى الان لم تسمعه الحلم الذي يريد..)..
فالنص بعوالمه الدرامية يغلب عليه التوتر والثنائيات المتصارعة التي تمنحه حركية دينامية تسهم في خلق عنصر التشويق واستفزاز الذاكرة..حتى انه يجرنا صوب(اوديب ملكا) لسوفوكلس..والتي تدور احداثها في مدينة (طيبة)حيث انذرت الالهة الملك لايوس انه يقتل على يد ابن له..)..فضلا عن توظيف الشاعر للاشكال البلاغية(مجاز/تشبيه/استعار..) والفنية كالرمز والانزياح..مع استرسال في الافضاء بالمشاعر المتدفقة عبر ضمير المتكلم الذي يستعير من الشعر التوتر والتكثيف الجملي ومن الدراما الحوار بشقيه..الذاتي(المنولوجي) والموضوعي(الواقعي).. بلغة شفيفة تمنح النص غنائية يطفو على سطحها البوح الوجداني..مع اعتماد عناصر القص(حدث/شخصية/فضاء مكاني/ نسق زماني(استباقي واسترجاعي) صياغة اسلوبية تطغى عليها تقنية الانزياح.. ليخلق الخيال الممزوج بالواقع المتميز بتنوع متنه الحكائي(اجتماعي/عاطفي/ نفسي/سياسي..) ينمو بنمو الحدث..
وبذلك قدم المعموري البابلي نصا يستند على سردية(مشهدية وجمالية وحسية..) ضمن تركيبة جذرها الذاكرة مع اهتمام بالفكرة والكثافة الدرامية المتوترة والغرائبية التي تحاول الاقتراب من صورة الواقع الاستثنائي بما يعتريه من اشكالات فيستدرج المستهلك صوب اللحظة الدالة للتأمل والكشف عما خلف المشهد السردي بالاتكاء على المستويات الفنية والامكانات السرد الذاتية(التداعي..تناغم الصوت الداخلي ـ الذاتي ـ والخارجي ـ الموضوعي ـ اضافة الى سيطرة الزمن النفسي على امتدادت النص المتسم بالقلق مع تعدد الاصوات بتعدد الضمائر وتمحورها حول الهم الاجتماعي كمحرك فاعل ومؤثر في الواقع الاجتماعي داخل بنية السرد الذي يحدد الوعي الاجتماعي الانساني الذي يظهر كوحدة اساس منبثقة من واقع متشظي..