علي حسن الفواز
التحولات الفنية والثيمية الحادثة في القصة العراقية تحمل الكثير من استشرافات هذه البنى المتغايرة، لأنها تتعالق بطبيعة المتغيرات والمؤثرات التي عبرت عن نفسها، من خلال السعى الى تهشيم بنية الحكاية النمطية من الداخل، والى الانتقال بهاجس التجديد الى مستوى اخر اكثر تعبيرا وتمظهرا، ويقوم على استيعاب تلك التحولات الفنية من جانب، والى الكشف عن منظور القاص ووعيه ازاء الاحداث والوقائع والجوهر الحكواتي للخطاب القصصي او الروائي، وحتى في نظرته للتاريخ والاسطورة والحكايات الشعبية المثيولوجية..
هذا التفاعل يصطنع له متغيرات كثيرة، على مستوى النظر الى المكان والزمان والشخصية، وعلى مستوى توظيف هذه المكونات في السياق البنائي، اذ يصبح هذا التواشج مابين المستويين نوعا من التوظيف التجديدي للتفاعل مع المتغير في بنية القص، وفي بنية الوظيفة/ الرسالة التي يجدد من خلالها القاص رؤيته للعالم الذي يحوطه، فالتغير في بنية القصة، حيث الحدث والوثيقة او الحكاية، مقابل التخيل السردي بمحمولاته الاكثر تبديا، أي ان هذا التغير يتجلى اكثر عبر ايجاد بنيات متراكبة او حتى تناصات في ايقاع القصة، مثلما هو التغير الحادث في اجناسية هذه القصة بوصفها(اللاحكاية) تلك التي تضع وجهة نظر القاص فوق الحدث، او التحكم به، لان القصة ستفقد تاريخيتها، وتتحول الى رؤية شخصية للأحداث، او حتى لمنظوره للتاريخ ولسياقات رؤيته وقصديته، فاذ نقرأ للقاص محمد خضير مثلا نجد قصصه وكأنها للرؤية، وتوغلات سردية في زمن القص، عبر الزمن الشخصي، اذ تقوم كشوفاته اصلا على شخصنة تلك الرؤيا، فالقاص يستعيد الحدث والمكان والتاريخ والمثيولوجيا عبر موشور وعيه، وعيه المتعالي والكاشف والظاهراتي، اذ الرؤية عتبة لكشف الضمر في الحكاية او في الوثيقة بوصفها جوهرا توليديا، نصا داخل النص الكلي، لتبدأ(سلطة المؤلف) بصياغة النص المتخيل/ نص المؤلف الذي يحاول ان يخفي فيه التاريخ والمثيولوجيا.
القاص السارد هو المعني الاساس بتأليف النص واكسابه قوة الرسالة الجديدة، تلك التي تتعالق ايضا برسالة القصة والفكرة والدلالة الاصلية، فرغم ان هذا القاص يقول( اننا لسنا في حقيقة مؤلفاتنا سوى اشباح اسمائنا، ومخطوطاتنا تتحول باستمرار تحت اصابعنا، وما نقصه شيء لا يدركه وعينا، لأنه موجود خارج مناله، بل خلق قبل وجودنا) 1
الاّ أن ذلك لا يعني انه سيتحول الى ناسخ كامل للحكاية، بل تتحول وظيفته الى رائي، او مؤلف داخلي للنصوص، تلك التي لا تقوم على الاختفاء الكامل كما في الحكايات المثيولوجية، بل في الحضور بوصفه الراوي او القاص او المؤلف العياني الذي يشارك عبر ضمير المتكلم بصنعة الاحداث وتوجيهها، او حتى ضمير الغائب.
انحياز محمد خضير للحكاية و لفكرة (المؤلف المقنّع) كما يسميه (2) يتبدى عبر رغبته في استعادة وظيفة الرائي الحكواتي، تلك الوظيفة التي مارسها هوميروس واستعادها بورخس وهما يحاولان اكتشاف العالم من جديد(3) هذه الاستعادة تحمل معها وعيا بمحمولات الحكاية وبنيتها اللسانية والدلالية من جانب، ووعيا بفكرة التأليف القصصي، لان هذه الفكرة لاتحرّف شيئا، بل تتمثل الى مرجعيات المؤلفين الآخرين وهم يمارسون لعبة التأليف الخفي للحكايات والاحداث والافكار، والتي تضع مؤلفها الجديد في سياق وظيفة الرائي لمجرى الحكاية، وللدور الذي يكون فيه اللبيس لصانع الحكاية، اذ ان فكرة القص عنده ستقوم على ثيمة الاخفاء، تلك التي تجعله في سياق فعالية التأليف، بوصفها نزعة استعادية مشحونة باللذة للتمثل برؤيا من يجعل من التأليف(حفلة تنكرية يلبس فيها كل مؤلف قناعه، قناع صفاته التي جعلت منه قاطع طريق او متمردا او شيطانا او رائيا او شبه اله، وفي النهاية خالقا للنصوص)4
قصص محمد خضير تتحول الى فضاءات مفتوحة للعبة التي يقترحها وعيه، اذ يتراكب فيها الواقع مع المتخيل السردي، وبما يمنح هذا الوعي قصدية ظاهراتية في ان تكون هي البؤر المولدة للتأليف، تلك التي تتحول فيها اللعبة السردية الى لعبة استدعاء لكل توليدات الصراع بدءا من حكاياتها القديمة المولدة لرؤى جديدة، وانتهاء بوجود العناصر والاطر المجاورة لكسر افق التوقع، وللإيهام بوجود فضاء اخر للقص، فضاء يصنعه القاص، لان القاص يتمثل فيه لفكرة مهيمنة تتجوهر في فعالية صناعة التاليف، وليس الانغمار في السياق او استعادة الحكي بوصفه تاريخا.
هذه المغايرة في التوصيف تضع النص امام رغبة التجاوز على اصل الحكاية، او استعادتها بوصفها رؤيا مغايرة او متخيلة للأثر والوثيقة والتاريخ وحتى العلامة، لان القاص يتحول الى قارئ اخر لقصصه، قارئ يمارس وظيفة التأليف من حيث هي منظور، او الشعور بالتلذذ او الاستمناء الداخلي، تلك التي تثيرها وظيفة التلمّس والشرح والتعرّف او امتلاك سر المعرفة/اللذة.
واحسب ان التحولات الفنية والثيمية في كتابات محمد خضير السردية من قصص المملكة السوداء، وقصص في درجة 45 مئوي، حيث نجد في قصص(عالم (المملكة السوداء) تمثلا ل( عالم النساء، وفي العنوان دلالة سيميائية مستعارة من أوضاع النساء، ولبس السواد، والحزن الدائم. والنساء في قصص المجموعة وإتصالاتها بقصص المجموعة الثانية ، مطلقات وأرامل ومهجورات وبغايا ويعشن الحرمان والفقر في الظلام ، في السراديب والغرف المظلمة. أوضاعهن نتاج صراعات إجتماعية ظالمة، وحروب محسوسة ضمناً . غياب الرجال الدائم يوحي بالتفكك الاُسري وفقدان العواطف الحقيقية في الحب. وقد شغلت الكاتب قضية المرأة المومس في قصتين هما «المئذنة» في (المملكة السوداء) و»منزل النساء» في المجموعة الثانية. والقصتان تقتربان من مشروعي روايتين من طراز النوفيلا)5
مرورا بالتحولات الاجناسية في كتاباته، لاسيما مع كتاب صحيفة التساؤلات، ورؤيا خريف ورؤيا البرج وصولا الى بصرياثا وكراسة كانون، اذ تؤكد هذه التحولات طبيعة المجرى في نقل فكرة المؤلف من المجاورة الواقعية الى المجاورة التاويلية. ففي قصة رؤيا خريف حاول القاص ان يزيح الشكل عن تموضعه، وان يضخ البنية القصصية بروح جديدة، تلامس اطارها الاسلوبي وطبيعة ماتوحي بتوصليه( في انجاز تفاصيل شكلية واسلوبية متعددة لبناء السارد، وبنية المكان وزمان الرؤيا)6
طبيعة هذه القصة وضعت اجناسية الكتابة القصصية بوصفها مادة سردية امام اشكالية توصيفية، وامام قطيعة قرائية، اذ انها اسهمت الى حد كبير في اعادة فحص مفهوم التوصيف للجنس القصصي والروائي، خاصة وان تاريخ الكتابة ارتبط برؤى فنية واسلوبية اسمهت في تحديد تجليات النص السردي ووظائفه، مثلما هو ارتباطها بمفهوم التجديد الذي ارتبط بالكثير من سمات وملامح التحولات البنائية في جنس القصة العراقية بشكل خاص، وفي تفكيك فكرة المنظور الاجناسي والوظائفي السردي للواقعية التقليدية، ولطبيعة بنيتها الحكائية التتابعية، باتجاه الاستفادة من تيارات التجديد، وايجاد تقعيدات نظرية ومنهجية لهذا التجديد، لاسيما الاستفادة من تيار الوعي، ومن المجاورات الفنية في الكتابة البصرية والسيناريو والونتاج والتشكيل وغيرها، وهو ما عدّ اجتراحا باتجاه التماهي مع خطوات اكثر جرأة للكتابة ذات البنيات التتابعية، الى ما يشبه الكتابة المفتوحة، كتابة التجاورات، تلك التي تستفيد(من التأمل الذهني ومن التناصات مع الموروث الحكائي المجسد في البناءات الشهيرة التي شهدتها عصور عراقية ضاربة في القدم او من موروثنا اللغوي، الملحمي القديم والصوفي والفلسفي العربي والاسلامي)7..
مفهوم التغاير في التجنيس النوعي لكتابة القصة عند محمد خضير، يضع توصيف هذه الكتابة امام مفارقة مفتوحة، اذ يبدأ تحول الكتابة من الوظيفة الكلية/ وظيفة المعنى والقيمة والبرهنة، الى الوظائف الداخلية القائمة على تداخل المجاز الاسلوبي والوظيفة الاستعارية، وافتراض المقارنات الدلالية والرمزية، اذ تحولت هذه الوظائف الى استعمالات، والى مقاربات، والى رؤى، والى مجال تجريبي دخل في التأثير والتفاعل، والذي تجاوز فيه القاص الخضوع الغرضي لمحددات بروب في النظر الى الحكايات وترابطاتها السببية، لان القاص يكون فيها هو الصانع/المؤلف السردي، وهو كذلك الرائي، مثلما هو العليم وهو المؤرخ الداخلي، او هو الشاهد الذي يمارس وظيفة الظاهراتي الذي يستعيد كل شيء عبر وعيه، وهذا الوعي يتحول الى المولد الاستعاري والرمزي في التعاطي مع مستويات الزمن والمكان، فضلا عن تعالق رؤيته مع الوظيفة الاستعمالية لفكرة القص، اذ يتحول القص والمشاهدة الى نسق متراكب له سياق تفاعلي، يقوم على اساس تفاعل الفكرة مع الرؤيا، وانفتاح الوثيقة على المتخيل السردي…
1.محمد خضير/ الحكاية الجديدة/ منشورات عبد الحميد شومان/ عمان/ 1995 ص37
2.ذات المصدر ص40
3.ذات المصدر ص40
4.ذات المصدر ص42
5.شاكر حمد خلف/ الحوار المتمدن العدد/3983
6.جميل الشبيبي/ مدخل الى قصص الرؤيا في العراق/ مجلة نزوى عمان/ عمان/ العدد37 سنة 2009
7. ذات المصدر