نشأة القصّة وتطورها في العراق

أحلام يوسف

يعد الدكتور عبد الاله احمد الاستاذ الجامعي والكاتب والناقد، والاديب، أحد اهم الكتاب الذين وثقوا للأدب القصصي في العراق، وقد كتب أكثر من مؤلف عن موضوعة القصة، وتاريخها، ونشأتها، والظروف التي مرت بها في اثناء الحربين العالميتين.
يقول عبد الاله في مقدمة كتابه «نشأة القصة في العراق 1908-1939» الذي صدر عن دار الشؤون الثقافية بطبعته الثالثة عام 2001، ان القصة تعد اهم الاشكال الأدبية الحديثة التي استأثرت من جهود الادباء العرب بالحظ الاوفر: انتشر هذا الشكل من الادب في العراق مع فجر النهضة الجديدة، بحيث استطاع ان يقاسم الشعر دولته: ان الادب العراقي الحديث انما هو في حقيقته شعر وقصة، لا شعر ونثر، اذ ان الأنواع الأدبية الأخرى، والنثرية منها بصورة خاصة، لا يلمس الباحث لها وجودا يسترعي الاهتمام، بحيث تشاطر هذين اللونين من الادب اهميتهما في الادب العراقي الحديث، فالمقالة في معظمها صحفية، او سياسية، او اجتماعية، كتبت في ظروف معينة، ونتيجة لحوافز سياسية، او اجتماعية معينة، بأسلوب صحفي سريع، افقدها القيمة الأدبية.
يقول احمد: اذا كان القول ان الادب الحديث في العراق انما هو شعر وقصة، ولا نظنه الا كذلك، فان ابرز ما يلفت نظر الباحث في الادب العراقي الحديث، ان هذين الفنين لم ينالا قدراً واحداً من اهتمام الباحثين، فبينما تجرد للشعر الحديث العديد من الباحثين يدرسونه في اتجاهاته، وتياراته المتعددة، ويدرسون شعراءه، ظلت القصة العراقية مهملة، واذا استثنينا بعض المحاولات القليلة، ويمكن احصاؤها على اطراف الأصابع، التي حاولت ان تلقي الضوء على بعض جوانب هذا الشكل المعتمة، فان الباحث لا يكاد يظفر بدراسة واحدة وافية، حري بها تكون قد استقصت جوانب هذا الشكل، واستوعبت اتجاهاته المتعددة، ودرست المؤثرات التي افضت الى نشوئه، وتطوره في العراق.
يقول المؤلف في الباب الأول من الكتاب الذي يتحدث خلاله عن المحاولات البدائية في كتابة القصة: ان الاتجاهات الثقافية في القرن التاسع عشر، تتوزعها ثلاثة تيارات ثقافية، أولها التيار التقليدي، وهو امتداد لتيار الفكر العربي القديم، وثقافته عربية، بعيدة عن أساليب التعليم الغربي، فلا اثر للغات الأجنبية فيه، انما هي علوم الدين، وعلوم العربية، يتدارسها الدارسون في المسجد والمدارس المتعددة، وأدباء هذا التيار هم الذين استمدوا ثقافتهم من موروثهم الحضاري، والفكري في شكله الأخير، الذي استحال اليه في عصور تدهور الحضارة العربية، ويمثل هذا التيار اكثر ادباء هذا العصر، ولم يخرج عن اطاره احد، الا أواخر القرن العشرين، وطبيعة هذا التيار المحافظ تجعله ابعد التيارات عن القصة الحديثة، لما نعرفه عنها، انما قامت نتيجة تأثر موصول بالقصة الغربية بشتى اشكالها.
اما التيار الثاني فحسب المؤلف يغلب عليه الطابع الرسمي، وجاءت به الدولة بعد انشائها مدارس الرشدية والاعدادية: عليها صبغة الأساليب الغربية واللغة التركية المقام الأول فيها لأنها لغة الدولة، ترافقها مبادئ اللغة الفارسية، التي يفرض الالمام بها على كل من تعلم شيئا من الادب التركي، ويحوي من جهة أخرى شيئا من مبادئ العلوم الحديثة، مع علوم الدين، ودروسا عربية ضئيلة، واضأل منها اللغات الأجنبية، ولم يكن منتظرا لهذا التيار الثقافي الذي نشرته المدارس الاميرية العثمانية، ان يحمل الى المجتمع تطويرا في الادب، وهو يعتمد لغة اجنبية، بعيدة عن جوهر العربية، وآدابها، الا ان قيمته تنحصر فيما حمله الى المجتمع العراقي من روح جديدة في طرز التعليم لم يكن لها وجود في الفترات السابقة من تاريخه، وقد امدت بعض المثقفين بطاقة من الفكر تلتمس الأمور البعيدة وتنفح بجهدها الفردي الادب بظلال جديدة.
التيار الثالث من تلك التيارات هو الذي عملت على نشره البعثات التبشيرية، وحظ الثقافة الأجنبية في هذا التيار أكبر، لما كانت تبذله هذه البعثات من محاولات لنشر اللغات الأجنبية المتعددة، مثل الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، وكان نمط التربية في هذه المدارس هو نمط المدارس الحديثة في البلاد الغربية، مع مراعاة مقتضيات الزمان والمكان، وكان منتظرا لهذا التيار ان يحمل للأدب العراقي فن القصة في بدايته الأولى، وان يعم نشاطه نواحي متشعبة من المجتمع، الا ان هذا النشاط قد انحصر نتيجة الاضطهاد الذي جوبه به، من قبل السكان والدولة، في النواحي الدينية المحضة، من دون ان يتعداه، الا في النادر الى مجالات أخرى، لكن هذا لم يمنع ان يصرف بعض رجال البعثات او بعض تلاميذهم جهودهم الى الناحية الأدبية التي يمكن ان تكون جدران مدارسها سورا عاصما لها، يعصمها من العاديات، فرأينا في أواخر القرن التاسع عشر، محاولة تبزغ الى الوجود في تمثيل مسرحية، ترجمها عن الفرنسية من غير إشارة الى مؤلفها، نعوم فتح الله سحار، ونشرت في مطبعة الدومنيكان في الموصل بعنوان رواية لطيف وخوشابا، وتقع في 83 صفحة ولم تقتصر محاولاته على هذه المسرحية، فألف وترجم مسرحيات أخرى عديدة عن الفرنسية، في الاخلاق والاجتماع.
ان القصة العراقية ما بين الحربين حسب الباحث خضعت في تطورها لمؤثرات جديدة، استجدت بعد الحرب الأولى، حددت طابعها ورسمت مسارها، بنحو يميزها عن طورها البدائي الأول، الذي نهجت فيه نهجا خاصا، ينحو نحوا اجتماعيا جادا، وينزع الى ان يقول كلمته في مشكلة معينة من المشكلات، التي كانت تثير اهتمام الناس آنذاك، ومن هنا جاء ارتباط المحاولات البدائية للقصة، بالمقال الاجتماعي الإصلاحي، لكن اكثر الباحثين الذين ارّخوا للقصة العراقية، اغفلوا الإشارة الى هذه المحاولات البدائية الأولى وانطلقوا جميعا من نقطة واحدة، هي ان القصة العراقية بدأت بعد الحرب العالمية الأولى، ولم يكن لها وجود قبلها، فهي تبدأ من محاولات محمود احمد السيد، ولعلنا نستطيع ان نعذرهم فقد ضاعت المحاولات البدائية الأولى، ولم تؤثر في النتاج القصصي اللاحق لقلتها، ولأنها تعبر عن مشكلات مضى عهدها، فلم تعد تثير انتباه القارئ، او لان الرواية العربية والمترجمة التي انتشرت بكثرة بعد الحرب الأولى، كانت اقرب الى نفوس القراء، وبذلك فقد بدأت القصة العراقية بداية جديدة منذ أوائل القرن العشرين، ودخلت مرحلة جديدة، وطورا لا يمت الى طورها الأول بصلة، ولا يمكن عده امتدادا له.
افرد الكاتب فصولا خاصة لأوائل من كتبوا القصة في العراق، وكان اول فصل عن محمود احمد السيد: الذي يعد اهم من مثل القصة العراقية ما بين الحربين، فقد كان اول من بدأ بكتابة القصة بنوعيها الطويلة والقصيرة، وكان اول من كتب في القصة الاجتماعية في نزعتها الواقعية، وبذلك يكون قد بدأ بداية مبكرة بكتابة القصة الحديثة، ومن هنا يمكن عده ضمن الذين شاركوا في بناء القصة العربية، ووضع أسسها.
في فصل آخر تناول الكاتب سيرة أنور شاؤول بوصفه من أوائل الذين مارسوا كتابة القصة في العراق، سواء بما كتبه، او بما ترجمه، او بما حرص عليه من تشجيع، وحث على كتابته منذ إصداره لمجلته «الحاصد» في العام 1929 وبذلك فيكون له فضل الريادة، واستطاع شاؤول ان يترك اثرا معينا في القصة العراقية مهما ضوئل حظه واهميته، فهو لا شك أسهم بشكل من الاشكال في ترسيخ هذا الفن في العراق، وفي تنويع اشكاله الفنية، لكن ضعف موهبة الكاتب القصصية، واهماله لفنه، وانصرافه الى اهتمامات أخرى، قلل من أثر الدور الذي قام به.
ذو النون أيوب أحد كتاب القصة الذين تحدث عنهم المؤلف وقد بدأ كتابة القصة نحو عام 1935: حيث كان مفهوم القصة الحديثة قد ترسخ في العراق، واتسعت دائرة كتابها وقرائها على حد سواء، وكتب فيها من المحاولات القصصية العديدة الموفقة في بعضها، والساذجة في اغلبها، ما حدد اتجاهها ووضعها على أسس من الفن امتن، ولقد كانت للمحاولات المخلصة الجادة التي بذلها محمود احمد السيد، وغيره من القاصين، سواء اكان ذلك في كتابة القصة الحديثة، ام في ترجمة عن لغات أخرى. ما مهد الطريق وهيأ منطلقا جديدا للقاصين.
القاص عبد الحق فاضل الذي تطرق اليه المؤلف في كتابه حقق في قصصه على قلتها انسجاما جيدا ما بين الشكل والمضمون: اذ يبدو انه ادرك خلافا لغيره من القاصين الذين كتبوا القصة في العراق، خلال الفترة التي نؤرخها ان للقصة شكلا يجب ان ينسجم مع مضمونها، وان الكاتب غير حر في ان يسوق ما يريد على النحو الذي يريد، بحيث يغلبه طبعه فيكتب الصفحات الطوال بما لا يغني الحدث، ان لم يكن يشوهه، ويفقده قيمته، وان القصة كأي عمل فني اخر يخضع لتقنية خاصة فيها المعاناة، والمكابدة، والبناء المحكم، الذي يقوم على أسس فنية متينة، وليست عملا سهلا على أي انسان ممارسته.
ضم الملحق في الكتاب قصصا نشرت في الصحف والمجلات في فترات متباعدة ما بين عامي 1908-1939، لم يضمها كتاب يوما، لذلك كتب عليها الضياع ولم ينتبه الى أهميتها وقيمتها احد من الباحثين، برغم ما تحمله من دلائل ترشد الباحث، وتعرفه على كثير من جوانب تاريخ هذا الفن الغامضة، نذكر منها «رؤية أدبية» لمحمد فائق الكيلاني، و»كيف يرتقي العراق» لعطاء امين، وعاقبة الحياة للكاتب نفسه، ثم قصص لمحمود احمد السيد، منها الشبح، و»ثورة على ابيه» وكانت اهداء لصديق الكاتب، القاص المصري محمود تيمور، وقصة قاتل يتألم لوديع جويدة وغيرها الكثير من القصص.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة