انفتاح التجنيس واتساع المقتضيات في كتابة القصة القصيرة جداً

د. نادية هناوي سعدون

القصة القصيرة جدا جنس قصصي يمتاز بالتكثيف والإختزال وبغيته إيصال فحوى فكرته أو رسالته بأسرع الوسائل متعاملا مع اللغة تعاملا خاصا جدا يجعل لكل كلمة دورها الوظيفي داخل السرد وهذا ما يمنحها جاذبية الشعر ومدلولية السرد وفاعلية التأثير والادهاش.
وتتطلب كتابة القصة القصيرة جدا ثراء معرفيا كبيرا وبراعة في توظيف التقانات كاستعمال المفارقة والعجيب والذاكرة والحلم والفانتازيا والمونولوج والمونتاج في مضمار حدث واحد أو اثنين وشخصية أو أكثر لتندمج جميعها في خيط سردي واحد قصير ومختزل قد يبدأ من النهاية لينتهي في البداية استرجاعا وقد يبدأ من النقطة التي ينتهي فيها ضمن بناء دائري وقد يكون بناء متناوبا جيئة وذهابا.
ولا يتوانى كاتب القصة القصيرة جدا من أن يجعل لحظة التأزم عبارة عن لحظة توهج تفاجئ القارئ بلفتة أو نكتة أو نبضة أو لمحة وبما يخرق معتادية الحدث المسرود التي سرعان ما تتعقد لتنفرج بذات السرعة المفاجئة التي حلت بها وهذا ما يجعلها قصة اللحظة المفعمة بالتحول والدهشة.
وعلى الرغم من محدوديتها التداولية نوعا؛ ما إلا أنها أكثر أجناس القص انفتاحا وامتدادا في فضاءات الرؤى وعوالم التأمل وهذا ما حدا ببعضهم وبسبب خصوصية اللحظة القصصية فيها أن يسميها القصة الصاروخ كون فاعلية التوصيل الكامنة في متنها وعنوانها عادة ما تبدو صادمة ملامسةً ذاتية كاتبها عاكسة مقدار الإحساس المستودع فيها.
وعلى الرغم من قصر سطور القصة القصيرة جدا؛ إلا إنها محسوبة بعناية في استهلالها أو افتتاحها وفي تخلصها وختامها، وليس بعيدا أن تفرض هذه القصة نفسها على المشهدية القصصية العربية بما لا يدع مجالا للتكهن أو المراهنة. وإذا أردنا أن نضع توصيفا نظريا يؤطر مفهوم القصة القصيرة جدا؛ فإننا سنجد أنها جنس إبداعي ينزع لان يكون صورة شعرية ينقصها الامتداد ويعوزها الإيقاع لكنها تتمتع بالتوهج الذي فيه الدرامية حركة وتوترا.
وإذا كانت القصة القصيرة جدا عبارة عن انفعال وانثيال في بدايتها فإنها في ختامها صدم وإيقاظ وتوهج ولهذا عدت أشبه بالمغامرة.
وميزة هذا اللون من الكتابة السردية تكمن في انفتاحه الاجناسي على مختلف الفنون متأثرا بالشعر والحكاية والخاطرة والومضة والحكمة والمثل، وهو إذ لا ينحاز لواحد منها؛ فإنه يتوخى دوما الاختزال متجاوزا ضوابط القص وعناصره، كأن تغيب الشخصية أو الحوار أو الزمان والمكان وقد ينعدم وجود الحدث القصصي لكن لحظة التوهج في كل تلك الحالات تظل شرطا أساسا في قيام السرد.
ولا غرو ان تكون هناك خصائص ومميزات كتابية انفردت بها القصة القصيرة جدا، مما قد لا يتواجد في أي جنس قصصي آخر الأمر الذي أغرى بعض القصاصين نحو كتابتها وفي مقدمتهم القاص حنون مجيد..
ولقد تفاوت الأدباء والنقاد العراقيون في الإقرار بهوية القصة القصيرة جدا فاستعمل الناقد الاستاذ الدكتور شجاع العاني مصطلح الأقصوصة قاصدا به القصة القصيرة والقصيرة جدا معا، وذهب الدكتور عبد الواحد محمد في تقديمه للقصص القصيرة جدا ( يموتون ولا يموت) للقاص حنون مجيد إلى تسمية القصة بالنكهة السردية وذلك لعدم وجود الحبكة
ووسم الناقد جاسم عاصي القصة القصيرة جدا ـ في تقديمه للمجموعة القصصية القصيرة جدا( التماهي) تحت عنوان( فن الاختزال والتكثيف) ـ بأنها» كفن وكمنتج يخضع للموهبة أساسا ..بمعنى ان إنتاج هذا النوع من الأجناس الادبية يخضع إلى الكيفية التي يتعامل بها كل قاص .. ومستوى المعرفة النظرية المحكومة كذلك بالحس الداخلي ورؤية القاص للظواهر وللعلاقات التي تنتظمها» ص5
ووجد طراد الكبيسي أن القصة القصيرة جدا تشتغل على شاعرية السرد انطلاقا من مقاربة ترى في هذا النوع من القص انزياحا نوعيا، ولقد انبهر القاص هيثم بهنام بردى بهذا الفن لا كتطبيق كتابي فحسب؛ بل كاشتغال تنظيري فضع كتابا بعنوان(قصاصون عراقيون سريان في مسيرة القصة العراقية القصيرة جدا) تتبع فيه نشأتها في العراق واصفا القصة القصيرة جدا بأنها بنيان ليس مشيدا على الرمال وان إتقان كتابتها يحتاج إلى بحّار ماهر وتحدث عن مديات تطورها عربيا.
وشددّ على أن كتابة هذا الفن لا تتم إلا بعد أن يكتب صاحبه الرواية والقصة القصيرة وليس العكس.. ونضيف إلى ذلك ميزة اخرى وهي أن كاتب القصة القصيرة جدا يمكنه أن يعاود كتابة قصة ما لتتوالد وتتناسل في شكل قصصي آخر قصير أو طويل، وهذا ما لا نجده متاحا في الأشكال القصصية الأخرى لتكون هذه لمحة فنية أخرى تمتلكها هذه القصة وتجعلها مؤهلة لان تتقدم على سائر أشكال السرد القصصي لتغدو إجناسية قصصية ناضجة ومكتملة، وإذا ما أضفنا إلى ذلك حساسية كتابتها كونها أشبه بالشفرات التي توقظ الذهن بالسرعة والخطف محتوى ومبنى، فإن هذا هو باب آخر للتميز الاجناسي.
ومن مقومات تميزها ايضا: الوعي الفني المنكب نظرا وإجراء على ممكنات التعامل الإبداعي مع الصياغات القولية اسما وفعلا وحركة والمواكب لالماحات الترميز واشتغالاته والموظف لمتاحات اصطناع المفارقة والتضاد احتداما وتأزما والعارف بمديات تحقيق التباين والتنافر موضوعات وثيمات ومعطيات والمتحصل على إمكانيات الانثيال الواعي والتداعي الحر بلا مباشرة وبقصدية سواء في العنونة أو الابتداء أو العرض أو الختام الذي عادة ما يكون أكثر قصرا من العرض والابتداء.
ولا مناص من أن يكون لتوظيف العلامة والتساؤل دور مهم في إيقاظ قدرة القارئ على التأويل وتداول النص وفهم إشارته وشفراته ..ولا تخلو القصة القصيرة جدا من أن تكون حاملة لوجهة نظر بإزاء عالمين متناقضين متعاملة معهما بانزياح ذي طابع ديالكتيكي يتسم بالسرعة والانبهار وغالبا ما تكون وجهة النظر صادمة فتنتهي القصة وقد حركت ذهن القارئ وأثارت تفكيره ..
وتجعل خصيصة القصر والاختزال القصة القصيرة جدا مشابهة للقصيدة الومضة وإذا كانت القصيدة الومضة قد شهدت انتشارا مفاجئا؛ فإن هذه القصة ربما ستنال المنال نفسه لتلفت الأقلام الإبداعية نحوها وقد تنافس وربما تضاهي كتابتها الرواية والقصة القصيرة وقد تتغلب عليهما بميزاتها وبمجاراتها الجمالية وادائيتها التواصلية.
لتغدو فن القرن الحادي والعشرين مماشية سرعة وسائط التواصل والتفاعل الرقمية الأخرى، ومعبرة عن حرية كاتبها في أن يدخل منطقة الأجناس الأخرى من دون أية قيود أو شرائط..
وهذا ما لا تتيحه فنون القص الأخرى التي تمتلك ضوابط لا يمكن تجاوزها أو التغاضي عنها كما لا تسمح بتجاهل شروطها أو خرق قواعدها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة