لعبة التحدّي بين المؤلّف والراوي

مروة السراي

عندما يكون الراوي بطلا في القصة يقع القارئ تحت سيطرة أفكاره وأيديولوجياته، التي تكون محل شك وعدم تسليم بكل ما ترويه, هكذا يبني الروائي الدكتور علي عبد الأمير صالح قصته (الهولندي الطائر) من مجموعته القصصية التي تحمل الاسم ذاته من منشورات اتحاد الكتاب العرب لعام 2000, تحكي القصة سيرة طبيب الأسنان الذي لم يصرح باسمه وإنما اكتفى بأسماء الفتيات اللائي يرتدن عيادته، فكن مميزات فاتنات مهووسات بحبه :» الواقع أن أغلب مرضاي من الجنس الناعم؛ فتيات بين السادسة عشرة والخامسة والعشرين, وسيدات في سني زواجهن الأولى…»، ومما يلاحظ أنه لم يصف أي فتاة بالدمامة أو القبح، ولم يذكر غير هذه الأعمار كأنما عيادته حكرا على هذه الفئة من الشابات اللاتي أمعن في أوصافهن وما يميز كل واحدة عن الأخرى بصورة تضفي عليهن هالة من الجمال والأنوثة الطاغية, وما يسقط منهن في عيادته في أثناء المعاينة من مشابك للشعر ومحفظات جلدية ومناديل موردة وأمشاط ملونة وما إلى ذلك، حتى أنه ذكر بأن الأمر وصل بهن إلى تركهن حاجاتهن الشخصية كالعطور والفساتين والقمصان القطنية حتى حبات الهيل.
ومن الملفت في هذه القصة أن الراوي لم يذكر غير ما يجري له مع هؤلاء الفتيات وأنهن جميعا وقعن في حبه وهو طبيب الأسنان الذي من المفترض أن يصف أدواته التي يسخرها ويستعملها من أجل معاينة ومعالجة مرضاه كالمستلزمات الطبية من تخدير وتعقيم وما يمكن لأي طبيب أن يستعمله, بيد أنه لم يُعثر لمثل هذا على الإطلاق، إلا أنه اقتصر طوال هذا النص على سرد بطولاته ومغامراته العاطفية معهن وما يخلفنه من أحمر الشفاه على تلك المرايا التي وصفها بأنها كنز لا يقدر بثمن»كنوزي التي لا أعادلها بكل الكنوز التي قرأت عنها في الصحف والمجلات المصورة, ولا حتى تلك الكنوز التي تصفها الروايات وقصص الجان..إنها أثمن من كنوز الملك سليمان , وأثمن من كنوز ألدورادو.. إنها كنوزي أنا…».
إلا أن المؤلف أخرج هذه الحكاية, فيما بعد من جنس القصة ليضعها في جنس أدبي آخر أكثر تفصيلا, ليلبس هذا النص ثوب الرواية تحت مسمى (أرابيسك) ليبتعد من القصة نفسها التي اختزلت كثيرا من الأحداث والشخصيات، فنراها في الرواية تتحرك في فضاء أرحب متكون من ثلاثة عشر فصلا أشبه بالمتوالية القصصية.
فيلاحظ أن المكان نفسه يتراوح بين الشقة والعيادة لا غير، والشخصية الرئيسة ذاتها وهو طبيب الأسنان كما أسلفت، يسرد الأحداث بطريقة التداعي الحر، ومما يبدو في هذه الفصول أن كل فصل ما هو إلا وصف لشيء معين أو حادثة معينة مع فتاة أخرى، بمعنى اختلاف الأحداث والشخصيات الأخرى في كل فصل مع ثبوت الشخصية الرئيسة ــــــ الراوي ــــــ والمكان ذاته ــــ العيادة والشقة ـــــ ففي الفصل الأول وصف لقلمه الذي دون فيه اعترافاته وحكاياته مع الحسناوات المشكوك بصحتها:»هو ذا قلمي، قلمي الرصاص.
وهي ذي المرايا..
هو ذا قلمي الأكثر بوحا والأكثر وجعا.
هو ذا يوقظ الماضي من جديد.. ويستدرجني إلى دهاليز الذاكرة.. فأعيش مرة ثانية قصصي مع النساء…», والفصل الثاني تعريف مفصل بنفسه (الراوي) وحياته وهواياته وأهم محطات حياته، حتى ما كان يرتديه في طفولته من ثياب مقلمة، ليبحر في بقية فصول الرواية في العالم الذي شيده في مخيلته مع خليلاته اللاتي يراجعنه في عيادته، ففي كل فصل يروي حادثة عن فتاة أو اثنين أو ربما أكثر فهن كثيرات من يراجعن عيادته على حد تعبيره منهن: ليليان, رقية، شذا, إيمان، عشتار، ياسمين، هيفاء، أصيل، بان…الخ انتهاءً بسوزان آخر حبيباته.
احتوت هذه الفصول حوادث من نسج خياله ففي كل مرة تقع إحداهن في شراكه وتترك كل شيء من أجله فمنهن من تطلقت من زوجها, وهذا ما فعلته رقية بتخلصها من زوجها البليد فكان مهندسا متفرغا لعمله، بيد أنها أضاعت الخيط والعصفور بحبها للطبيب :»لقد فهمتني خطأ.. نعم هذه الجملة استهلكت كثيرا من فرط تكرارها، ومع ذلك كنت مرغما على النطق بها», لكنه يقف وقف طويلة مع حبيبته الأقرب على قلبه ياسمين لاعبة التنس بحضورها المميز واللافت عن الأخريات، كان حديثه عنها بطريقة (الحوار) بينه وبينها، لأنها أتت إلى شقته أكثر من مرة من غير مبالاة هذا الفصل(السابع) هو الأكثر تفاعلا بينه وإحداهن وهي ياسمين:»استسلمت لعبراتها..رضخت لعواطفها… عبراتها بللت مبذلي الصقيل.. دموعها فجرت فيَّ أحزان الدنيا كلها…ومن دون إرادة مني جعلت أذرف الدمع…لم تكن تمثل معي دور العاشقة.. كانت ياسمين عاشقة حقيقية، صادقة, مخلصة،.. لم يكن بوسعي إلا أن أبادلها مشاعرها».
يتجلى من ذلك أن المؤلف أخرج نص (الهولندي الطائر) من جنس القصة إلى الرواية الجنس الأدبي الأكثر تفصيلا وأحداثا وشخوصا بطريقة أشبه بالمتوالية القصصية ففي كل فصل حادثة وحكاية تختلف عن الفصل الآخر، لكن المكان والشخصية الرئيسة ذاتهما, ويمكن أن يقرأ كل فصل على أنه قصة قصيرة تحمل في طياتها سيرة طبيب الأسنان صاحب السمعة المشبوهة مع الفتيات اللاتي يترددن على عيادته, وفي هذا تحدٍ واضح من لدن المؤلف البعيد كل البعد عن أخلاقيات هذه الشخصية السردية التي اختلقها من أجل سرد أحداث هذين النصين السرديين سواء أكان قصة أم رواية كون المؤلف والراوي طبيبي أسنان لكن شتان مابين الاثنين!!!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة