مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
تحولت دول الإقليم التي تشهد أزمات داخلية عديدة لم تصل إلى تسوية بعد، مثل سوريا وليبيا والعراق واليمن، إلى ساحات رئيسية لصراعات مسلحة بين أطراف أخرى معنية بتداعياتها، حيث تسعى هذه الأطراف إلى تحقيق هدفين: أولهما، إعادة توجيه توازنات القوى التي تفرضها هذه الأزمات بما يتوافق مع مصالحها ويحقق أمنها. وثانيهما، منع خصومها من الحصول على مكاسب استراتيجية نتيجة انخراطهم في تلك الأزمات.
مؤشرات عاكسة
في إطار الصراعات الثنائية بين العديد من القوى الإقليمية والدولية والفواعل المسلحة من غير الدول المنخرطة بقوة في أزمات المنطقة، واصلت إسرائيل عملياتها العسكرية داخل سوريا، مثلما حدث في 27 أبريل 2017، عندما قامت بقصف مستودعات أسلحة يُعتقد أن إيران أرسلتها إلى حزب الله بالقرب من مطار دمشق الدولي، وذلك بالتوازي مع الشكوى التي قدمتها تل أبيب إلى مجلس الأمن الدولي، في بداية مايو الحالي، اتهمت فيها الجيش اللبناني بمساعدة حزب الله على انتهاك قرارات مجلس الأمن، وذلك بعد أن نظم الحزب، في 20 أبريل 2017، جولة لعشرات الصحفيين على الجانب اللبناني من الخط الأزرق.
كما شن سلاح الجو التركي غارات، في 25 أبريل 2017، على أهداف لمسلحين تابعين لـ “حزب العمال الكردستاني” قرب جبال سنجار في العراق، ولـ “وحدات حماية الشعب الكردي” في الحسكة بسوريا، مما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 20 عنصراً من “وحدات حماية الشعب” في الحسكة و5 عناصر من ميليشيا “البشمركة” في سنجار، حيث أكدت أنقرة أن المنطقتين اللتين قام الجيش بقصفهما تحولتا إلى “مركزين إرهابيين”، وأن الهدف كان منع حزب العمال الكردستاني من إرسال أسلحة إلى داخل تركيا لتنفيذ عمليات إرهابية.
وفي السياق ذاته، قامت الولايات المتحدة بقصف مواقع تابعة لتنظيم “القاعدة” في اليمن، حيث شنت طائرة أمريكية من دون طيارة غارة على مواقع تابعة للتنظيم في محافظة شبوة اليمنية، في 29 من أبريل الماضي، مما أسفر عن مقتل عنصرين من “القاعدة”.
وسبق أن قامت بعض دول المنطقة بشن ضربات ضد تنظيمات إرهابية خارج حدودها، على غرار الضربة التي وجهتها القوات الجوية المصرية، في 16 فبراير 2015، ضد معسكرات ومناطق تمركز وتدريب ومخازن أسلحة وذخيرة تابعة لتنظيم “داعش” في مدينة درنا الليبية، وذلك بعد أن بث الأخير شريط فيديو لعملية ذبح مسيحيين مصريين قبل ذلك بيوم واحد.
أهداف متعددة
تسعى القوى الإقليمية إلى تحقيق أهداف عديدة من انخراطها في صراعات مع بعض الفاعلين من غير الدول داخل دول الأزمات في الشرق الأوسط، وتتمثل أبرز هذه الأهداف في الآتي:
1- عدم الإخلال بتوازن القوى: وهو ما تسعى إليه إسرائيل من خلال ضرباتها المستمرة لمواقع النظام السوري وحزب الله داخل سوريا منذ اندلاع الأزمة السورية في عام 20111، حيث تُبدي تخوفات عديدة من استمرار تدفق الأسلحة من إيران عبر سوريا إلى داخل لبنان وتحديداً إلى مواقع حزب الله في الجنوب. والأهم من ذلك، هو أنها تتحسب لإمكانية اتجاه تلك الأطراف إلى رفع مستوى التسليح المقدم لحزب الله، خلال الفترة القادمة، لتصعيد تهديداته لإسرائيل وتكريس توازن قوى جديد يمنع إسرائيل مستقبلاً من مهاجمة الحزب، خاصةً في حالة الوصول إلى تسوية للأزمة السورية لا تتوافق مع مصالح إيران والحزب داخل سوريا ولبنان.
وبعبارة أخرى، فإن إسرائيل تسعى من خلال ضرباتها العسكرية المتواصلة داخل سوريا إلى توجيه رسائل إلى كل من إيران والنظام السوري وحزب الله بأنها لن تسمح لتلك الأطراف باستغلال تصاعد حدة الصراع في سوريا من أجل رفع مستوى ونوعية الأسلحة التي يمتلكها حزب الله خلال المرحلة القادمة، بشكل قد يفرض تهديدات قوية لأمنها ومصالحها.
لكن اللافت في هذا السياق، هو أن هذه الرسالة ربما تسعى إسرائيل لتوجيهها أيضاً إلى روسيا، في ضوء القلق الذي تبديه تل أبيب إزاء استمرار التفاهمات الروسية – الإيرانية حول التطورات السياسية والميدانية التي يشهدها الصراع في سوريا. وعلى الرغم من أن تل أبيب كانت حريصة على التنسيق مع موسكو خاصةً بعد تدخل الأخيرة عسكرياً في الصراع السوري إلى جانب قوات نظام الأسد، وهو ما يبدو جلياً في الزيارات المتكررة للمسؤولين الإسرائيليين إلى موسكو وفي مقدمتهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إلا أنها سعت من خلال تلك الضربات إلى تأكيد أنه ليس ثمة خطوط حمراء في سوريا سوف تمنعها من العمل على حماية أمنها، حتى في ظل تصاعد الدور العسكري الروسي داخل سوريا.
2- منع تكريس واقع جديد: يظهر ذلك في السياسة التي تتبناها تركيا إزاء الحرب ضد تنظيم “داعش” في شمال العراق، والصراع بين نظام الأسد والمعارضة في سوريا، حيث تسعى أنقرة إلى منع الأكراد في الدولتين من استغلال الأزمتين للحصول على مكاسب استراتيجية جديدة قد تفرض تهديدات مباشرة لأمن ومصالح تركيا.
وهنا، فإن تركيا تُبدي قلقاً واضحاً ليس فقط إزاء مشاركة الميليشيات الكردية بدور أساسي في الحرب ضد تنظيم “داعش” في كل من العراق وسوريا، وإنما تجاه الدعم الدولي، والأمريكي تحديداً، لهذه الميليشيات في ضوء حرص إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على إضفاء أهمية خاصة على الدور الذي تمارسه تلك الميليشيات على الأرض، وهو الدور المُكمل للعمليات العسكرية التي تشنها القوات الأمريكية، والتي تتركز في الأساس على الضربات الجوية، حيث ترى واشنطن أن نجاح استراتيجيتها في الحرب ضد “داعش” يرتبط بدعم ميليشيات على الأرض يمكن أن تسيطر على المناطق التي يفقدها “داعش” تدريجياً.
ولذا تخشى أنقرة من أن تسعى الميليشيات الكردية إلى استغلال الدعم الأمريكي من أجل الحصول على مكاسب استراتيجية كبيرة قد تعزز من جهودها لتكوين إقليم كردي مستقل، سواء في العراق أو سوريا، وهو ما يمثل خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه بالنسبة لأنقرة. ومن هنا، يمكن تفسير التغير الملحوظ في السياسة التركية تجاه تطورات الصراع في سوريا خلال الفترة الأخيرة، فبعد الإعلان عن انتهاء عمليات “درع الفرات” في 29 مارس 2017، بدأت تركيا تبذل جهوداً حثيثة من أجل إقناع إدارة ترامب بضرورة استبعاد الميليشيات الكردية في المعارك مع تنظيم “داعش” في الرقة خلال المرحلة القادمة.
3- تأكيد جدية التهديدات الأمنية: إذ حاولت إدارة ترامب، من خلال توجيه ضربات عسكرية لعناصر التنظيمات الإرهابية في بعض الدول مثل اليمن، تأكيد جدية التهديدات التي ركز عليها الرئيس الأمريكي خلال حملته الانتخابية وفي مرحلة ما بعد تولي إدارته مهامها في 20 يناير 2017، لاسيما أنه وضع الحرب ضد الإرهاب على قمة أولويات سياسته الخارجية.
وبالتالي، فإن ثمة اتجاهات عديدة تشير إلى أن الأطراف المعنية بالرسائل التي حاول ترامب توجيهها من خلال هذه الضربات العسكرية، تتمثل في خصوم واشنطن في المنطقة وخارجها، على غرار إيران وروسيا وكوريا الشمالية، التي تتباين سياساتها مع أجندة إدارة ترامب في كثير من الملفات. وبعبارة أخرى، فإن الإدارة الأمريكية تحاول استغلال تلك الضربات كآلية لفرض ضغوط على خصومها في الخارج من أجل إجراء تغييرات في سياساتهم قبل أن تقدم إدارة ترامب على تنفيذ تهديداتها إزاءهم.
4- اتخاذ إجراءات رادعة: على غرار الضربة المصرية لمواقع تنظيم “داعش” في ليبيا، والتي لم تكن تهدف فقط إلى الرد على عملية ذبح الأقباط المصريين، وإنما أيضاً إلى منع التنظيم من الإقدام على خطوة مشابهة في المستقبل، على أساس أن ذلك سوف يدفع مصر إلى الرد السريع عليها كما حدث في الضربة الأخيرة.
كما أن مصر سعت من خلال تلك الضربة إلى تأكيد دورها في الحرب ضد الإرهاب، سواء في سيناء أو في محيطها الإقليمي، باعتبار أن تلك التنظيمات توجه تهديدات مباشرة للأمن القومي والمصالح المصرية.
ختاماً، يمكن ترجيح استمرار “الصراعات الطرفية” في الإقليم خلال الفترة القادمة، في ظل تزايد انخراط كثير من الأطراف الإقليمية والدولية، من الدول والفاعلين من غير الدول، في الأزمات الإقليمية المختلفة، بشكل حوَّل دول الأزمات إلى ساحات للصراعات أو تصفية الحسابات بين هذه الأطراف.