خالد المطلوب
تنبني الدراسات التاريخية على الوثائق، فالتاريخ هو الأحداث التي وقعت منذ زمن بعيد أو قريب ولم يعد بالإمكان ملاحظة ظواهره وقت حدوثها، فلا سبيل -والحال هنا- أمام الباحث إلّا الاعتماد على ما تبقى من المخلّفات التي تركتها تلك التحركات البشرية، فكرية كانت أو مادية. وكلما زاد عدد هذه الوثائق وتنوعت ودعم بعضها بعضا، كلما كانت نتائج الدراسات والبحوث أكثر صدقا وقربا من الواقع، على ذلك يمكن القول أن غياب الوثائق يعني غياب الظاهرة التاريخية محل البحث.
وتنقسم الوثائق بشكل رئيسي إلى نوعين؛ أدبية ومادية، فالأدبية هي كل ما تم العثور عليه من كتابات جرى تدوينها على الرقم الطينية أو على أوراق البردي أو الجلود والأحجار أو غيرها مما جادت به البيئة التي عاش فيها الكتّاب والنسّاخ الأولون. أما الوثائق المادية فهي بقايا خرائب الأبنية التي شيّدها الإنسان لأغراض مختلفة؛ من البيوت إلى مخازن الأغذية إلى دور العبادة…، كما وتتصل بالوثائق المادية ما خطّته يد البشر من أشكال رمزية أو رسوم على جدران الغيران وغيرها، ويُحسَب على هذا النوع من الوثائق أصناف أخرى كثيرة من بينها؛ الأختام، المنحوتات، النُصُب والأسلحة… .
يقوم نقد الوثيقة -والحديث هنا عن الأدبية منها- على شِقّين أساسيين؛ النقد الخارجي والنقد الداخلي (الباطني) للوثيقة، فالخارجي هو الذي يتناول الشكل من حيث نوعية الخط والحبر والورق وصياغة العبارات، ومدى ملائمتها للعصر الذي كُتبَت به الوثيقة، أما النقد الداخلي فيختص بالمعاني والمفاهيم والأفكار التي جاءت بها الوثيقة من حيث الإنسجام أو التناقض وقوة الأفكار وجدّتها وعمقها وما إلى ذلك.
إن جانبا من الأهمية التي يتمتع بها نقد الوثائق تأتي من الأعداد الهائلة لما تركه الكتّاب والمؤرخون منها، وقد نحى الكثير منهم منحى الإسهاب والإطناب غير المبرَّر، وهو أمر يمكن ملاحظته مثلا في حوليات الأَخباريين العرب كالطبري وإبن الأثير وغيرهما، كما كان انحيازهم لطرف دون غيره واضحا عند تناولهم تاريخ المعارك التي جرت بين المسلمين واتباع الديانات الأخرى، مما جعل رؤيتهم تبتعد بهذا القدر أو ذاك عن الموضوعية المطلوبة. ونفس الأمر يمكن أن يُقال عن كتابات الرهبان القابعين في الأديرة، وحواشی الملوك؛ والذين كتبوا في تواريخ البابوات وأخبار القدّيسين تقربا لله، أو تقرباً وإسترضاءاً لبعض الملوك والأُمراء، كما جاءت كتاباتهم على سبيل تزجية الوقت الطويل وهم في منافيهم الاختيارية تلكْ، ما يجعلنا نتصور مقدار الحشو الذي امتلأت به صفحاتهم.
من الأهمية بمكان، القول؛ أن قيمة نقد الوثائق تأتي كذلك من خطورة المواقف الفكرية التي يمكن أن تنبني على اعتمادها، فبالعودة إلى بعض الوثائق المهمة التي تم نقدها وإثبات زيفها، يمكن التعريج على واحدة مهمة ضجّ المستفيدون منها طعنا بناقدها الراهب “فالا”، تلك هي المعروفة بوثيقة “هبة قنسطنطين”، وكانت تعتبر مقدسة من وجهة نظر البابوات الذين “كانوا يقولون إن الإمبراطور قنسطنطين الكبير وهب فيها أراضي إيطاليا للكرسي البابوي على اعتبار أنها إرث الرسول بطرس أخذه عن السيد المسيح مباشرة”، فقد أثبت فالا أن الوثيقة مزيفة، وأن رجال الكنيسة هم مَن وضع عليها خاتم قنسطنطين، وأن السيد المسيح لم يمنح الحواري بطرس شيئا في إيطاليا أو غيرها (حسين مؤنس، التاريخ المؤرخون، ص69).
ولو توغّلنا أكثر صوب النصوص المقدسة، يمكن القول أن تلك النصوص -بالمعنى التاريخي التوثيقي- تبدأ بكلمات ألقاها الموحي إلى الموحى إليه، فأذاعها الأخير بين الناس وتلقفها النسّاخ لأهميتها الروحية وقاموا بتدوينها بوسائل التدوين المتاحة في العصور المختلفة، فتحولت النصوص إلى وثائق قابلة للتداول وتكرار النَسخ والتوزيع. وبرغم اهتمام الكتّاب والمحررون والسلطة الكهنوتية بتقصي الدقة في التدوين، إلّا أن عدم قيام الموحى إليه بتلك المهة بسبب أمّية الكتابة أو الفاصل الزمني بينه وبين وقت التدوين، أمر جعل من الكلمات المقدسة وثائق نصيّة قابلة للعرض على النقد والتثبّت.
وإذا تغاضينا عن النصوص المقدسة التي تتناول أمورا غيبية سابقة وقعت في غابر الأزمان أو لاحقة ستقع في عصور مقبلة، باعتبارها غير قابلة للإثبات بشريا كونها خارج الزمن الأرضي المتعارَف عليه- فإن نصوصا أخرى تتناول أحداثا تُنسِبها للتاريخ المُعاش، فيصبح الباب مشرَعا أمام الباحثين المهتمين بأمر المطابقة بين النص والمخلفات الأرضية التي تشير إليه. وكما هو معروف فإن أفضل النتائج التي يمكن أن تصل إليها الدراسات والبحوث التاريخية، هي تلك التي تجمع بين وثيقة أدبية (نص مكتوب) وأخرى مادية (أثر ملموس)، الأمر الذي يستدعي الإستعانة بعلم الآثار للتحقق من صحة الوثيقة المكتوبة، وهي مسألة تثير اهتمام الكثير من الجهات الدينية او السياسية في عالمنا المعاصر.
سعت الحركة الصهيونية منذ تأسيسها لدغدغة مشاعر اليهود بـ “الأرض الموعودة”، في إطار جهودها الرامية لتأسيس وطن يجمع يهود العالم، مستندة في ذلك إلى نصوص الكتاب المقدس- العهد القديم، الذي يشكّل قيمة إيمانية عليا عند غالبية معتنقي الديانة اليهودية. فكان لا بد من الموائمة والمطابقة بين نصوص التوراة التي تتناول حوادث تاريخية وبين وقائع الأرض لإثبات صدق التاريخ والدين معا، ولم يكن العالم المسيحي أقل حماسا في ذلك الإتجاه -على قاعدة الإيمان المشتركة بالعهد القديم- عندما تشكلت في العام 1865م هيئة بريطانية برعاية الملكة فيكتوريا ورئاسة الأسقف كانتربري، أطلق عليها إسم صندوق التنقيب في فلسطين، فتوجهت إلى منطقة الحرم الشريف في القدس والتي يُعتقد إنها موقع هيكل سليمان القديم (فراس سواح، تاريخ أورشليم، ص25).
ومنذ ذلك الحين توالت بعثات التنقيب الأثري حول أشهر المعالم الأثرية في فلسطين، وتواصل النبش قرب أساسات الأبنية القائمة للوصول إلى الأرض العذراء التي لا يوجد تحتها آثار خلّفها البشر. وكانت سلطة الآثار الإسرائيلية -بعد اعتراف العالم بدولتهم- قد أخذت على عاتقها تلك المهمة، واستمر الحفر دون كلل للعثور على أية علامات تدعم ما جاء في التوراة عن مجد إسرائيل الغابر، وعظمة أنبيائهم وقوة ممالكهم وجيوشهم وحنكة قادتهم وفخامة أبنيتهم، فماذا كانت النتيجة؟
من بين الخلاصات الآثارية المهمة والمبنية على جهود تنقيبية عملية تراكمت في مدى سنين طويلة، هو ما تم جمعه وتحليله ونقده في كتاب “التوراة على ضوء اكتشافات علم الآثار” لمؤلفه اسرائيل فنكلشتاين، وهو بدرجة بروفيسور ويشغل منصب رئيس قسم علم الآثار في جامعة تل أبيب، كما شاركه في التأليف نيل أشر سيلبرمان وهو مؤرخ وباحث أمريكي. وعلى ما يبدو من مطالعة الكتاب أنه يتحلى بالكثير من الموضوعية والحيادية التي أغضبت رجال دين وجماهير واسعة. ويبيّن هذا الكتاب الطويل نسبيا في أحد مواضعه المهمة، نتيجة الجهود الآثارية المبذولة التي امتدت من قرن لآخر، بالقول: “لقد أخفقت كل التنقيبات الآثارية التي أُجريت، في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حول جبل الهيكل في أورشليم (القدس) في التعرف حتى على مجرّد أثر بسيط لهيكل سليمان الأسطوري، أو مجمع قَصْره” (الكتاب، ص173)
وفي موضع آخر من الكتاب يلخص المؤلف -أو المؤلفان- نتيجة تحمل استفزازا أكبر لجمع المؤمنين، حتى لكأنه يقول أن ما آمنت به الناس على مر آلاف السنين لم يكن اكثر من وهم وخيال، حيث يرد القول: “لم تكن تلك القصة التاريخية التي ترويها التوراة، بدءا من لقاء إبراهيم مع الله، ورحلته إلى كنعان، إلى تخليص موسى لبني إسرائيل من العبودية، وحتى صعود وانهيار مملكتي إسرائيل ويهوذا، وحيا إعجازيا، بل كانت نتاجا رائعا للخيال الإنساني الخصب” (الكتاب، ص23). وفي صفحة أخرى: “أصبح واضحا -الآن- أن العديد من أحداث التاريخ التوراتي لم تحدث لا في المكان، ولا بالطريقة والأوصاف التي رُويت في الكتاب المقدس العبري، بل بعض أشهر الحوادث في الكتاب المقدس العبري لم تحدث مطلقا أصلا” (الكتاب، ص28).
وينبغي الاستدراك من أن الكتاب لا يقصد الغياب المطلق للمجموعة اليهودية أو لشخصيات أمثال داود وسليمان، حيث يرد في صفحات أخرى أن اليهود -استنادا لإحدى النظريات الباحثة في أصولهم- هم من المجموعات السكانية التي نشأت في فلسطين ذاتها، مَثلها مَثل غيرها ممن سبقوهم وعاصروهم في نفس الرقعة الجغرافية، ولم يثبت خروجهم الجماعي من مصر حيث لا أثر يمكن اقتفاءه للاستدلال على عسكرتهم في صحراء سيناء لأربعين عام، كما ان تطور اليهود كمجموعة سكانية -وإنشائهم ممالك واقعية صغيرة، ومن ثم انهيارها وسبي أبنائها- جاء منسجما مع تطور المنطقة المحيطة، دون أن تكون لليهود أي قدرات إبداعية خاصة. وأن داود وسليمان -حسب خرائب الدور التي يُعتقد أنها تعود إليهم- لم تُشِر في واقع الحال لأكثر من كونها دورا تشبه ما يبتنيه زعماء عشيرة متواضعة لسكنهم، وأنهما حكما منطقة ريفية هامشية معزولة دون وجود دليل على أي ثراء أو رخاء.
وجهة نظر مغايرة ترى أن ما توصل إليه علم الآثار بخصوص مطابقة الشواهد الأثرية مع النصوص التوراتية، يمثل النتائج التي جاء بها هذا العلم “حتى الآن”، مما يعني أن حفريات مستقبلية يمكن لها أن تغيّر في النتائج أو تقلبها رأسا على عقب، ولعل هذا الرأي يمثل رغبة الكثير من رجال الدين (يهود ومسيحيون ومسلمون)، سعيا منهم للمحافظة على إيمانهم الديني بالطريقة التي اعتادوها، دون أن تهتز الصورة المعروفة للعقيدة الراسخة في عقول وضمائر جموع غفيرة من المؤمنين. يمكن القول أن وجهة النظر هذه صائبة قدر تعلق الأمر بمواصلة البحث العلمي، الذي لا يمكن إغلاق بابه، حيث أن رسالة العلم هي المضي قُدما في طريق التطور والتقدم طلبا للحقيقة النسبية وخدمة للبشرية.