هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث

الحلقة 3
د. فخري قدوري
الدكتور فخري قدوري من أوائل البعثيين في العراق يكشف في كتاب ” هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث” معلومات عن صدام حسين الذي جمعته به علاقة عمل فرضت ملاقاته يومياً لمدة ثماني سنوات، ويقدم صورة واضحة لشخصية متواضعة في البداية، ومنتهية بتسلط ونكبات متتالية، حسب تعبير المؤلف.
وفي الكتاب أوصاف دقيقة لأحمد حسن البكر وصدام حسين وجوانب من عاداتهما الشخصية لم يطلع عليها غير المقربين منهما.ويصف المؤلف كيفية انتمائه إلى حزب البعث وسيرته الحزبية وتجاربه مع رفاقه في الحزب “بعد أن أصبح الحزب في نهاية الأمر محكوماً من قبل شخص واحد وأصبحت تنظيماته تحت مظلة الإرهاب تنفذ رغبات الحاكم المستبد”.
“الصباح الجديد” تنشر فصولاً من هذا الكتاب نظراً لدقة المعلومات التي سردها الدكتور فخري قدوري حول مرحلة الاستبداد والتفرد وطغيان صدام حسين.
كان البنك المركزي العراقي يعد تقارير شهرية محدودة التوزيع على جهات معينة , وقد لاحظت من خلالها هبوطا متتاليا لموجودات العراق من العملات الاجنبية نتيجة لانفلات الانفاق .
وبحكم مسؤوليتي – رئيساً لمكتب الشؤون الاقتصادية لمجلس قيادة الثورة – سارعت الى وضع الصورة المقلقة امام مكتب امانة سر المجلس مواصلا التنبيه على هذا التطور الخطير ولكن من دون جدوى .
وفي يوم 6 اذار/ مارس 1976 اضطررت لتحرير مذكرة لرئيس الجمهورية مباشرة راجيا منه التدخل لمعالجة الموقف الذي لا يحتمل الانتظار جاء فيها ما نصه ( … لم ينزل بعيدين عن اتخاذ اجراءات جدية واساسية لحل هذه المسائل التي ستتضخم نتائجها مع مرور الوقت في حالة بقائها على حالها وهو الاكثر خطورة . ان القيادة السياسية وحدها بيدها الامكانية لمعالجة المفاتيح الاساسية لهذه القضية . وسأعرض عليكم – سيادة الرئيس – صورا اكثر صراحة وتفصيلا عن تلك الامور حين لقائي بسيادتكم ان تحسبتم ذلك).
وكانت المفاجأة ان عادت الرسالة في اليوم نفسه مع ملاحظة البكر في ذيل الرسالة ( الدكتور فخري : مواجهة يوم الخميس القادم ).
توجهت الى القصر الجمهوري ومعي جميع تقاريري السابقة , ولاحظت علامات انزعاج ترتسم على وجه البكر , وسرعان ما سألني عن سبب ترك هذه الامور دون تنبيه القيادة . وحين عرضت عليه ما ارسلته مرات عديدة في الفترة الماضية . قال يا دكتور في المستقبل اذا كتبت لنا حول امور مهمة ولم تتلق جوابا فعليك ان تأتي الى هنا وتقرع بابي هذا, مره بعد اخرى , حتى تدخل غرفتي , وتعرض علي الموضوع , نحن يا دكتور منشغلون
اجبته : نعم , يا سيادة الرئيس . لكنني سألت نفسي فيما اذا سأنفذ هذا الطلب فعلا واذهب الى غرفته واطرق بابه في كل مرة !
ولم تمض ايام عدة حتى ناقش مجلس قيادة الثورة مجمل التطور المالي في جلسة دعيت ووزير المالية لحضورها , حيث وافق المجلس على عدد من المقترحات من بينها : الاقتراض من البنوك الدولية على وجه السرعة بحدود 500 مليون دولار لتغطية الحاجة الملحة , ومفاتحة البنك الدولي لتمويل بعض المشروعات الكبيرة , الى جانب بعض الخطوات لترشيد الانفاق .
تشكل وفد ثلاثي للاقتراض من البنوك الدولية برئاسة الدكتور فوزي القيسي وزير المالية وكنت انا احد اعضائه الى جانب صبحي فرنكول المستشار في البنك المركزي العراقي .
تجول الوفد في عدد من الدول الاوروبية واستقر الرأي على الاقتراض من بنك (بوباف) نظرًا لصلة رأسماله بالدول العربية ومن بينها العراق من خلال مصرف الرافدين الحكومي . وفي مقر البنك في باريس ابدى رئيسه آنذاك ( الدكتور محمد ابو شادي ) تعاوناً لا محدوداً , وادخل بنوكا عديدة في سلة القرض البالغ 500 مليون دولار . وكان القرض هو الاضخم الذي يبرمه (بوفاف) في تاريخه ويشكل رقماً كبيرًا بالمقاييس الدولية السائدة آنذاك .
بعد ابرام القرض استعمل العراق جزءا منه فقط خلال الفترة اللاحقة وتمكن من الغاء الجزء الاخر بعد تحسن وضعه المالي نتيجة خطوات ترشيدية قسرية , ولكن خلفيته تشكل احدى الدلالات العديدة على التجاوز الذي كان يمارس تجاه المعايير المالية والاقتصادية , حيث اضطر البلد في النهاية الى دفع فوائد جمة عن القرض كان بالإمكان تفاديها .
واعتبر صدام دوري بالكتابة لرئيس الجمهورية مباشرة وعرض الصورة المالية القاتمة عليه انتقادا واضحا , وان كان غير مباشر , للتخطيط المالي الذي يشرف صدام نفسه عليه .
مع البنك الدولي – قرض ينتهي بالإلغاء
تقرر مخاطبة البنك الدولي لتمويل مشاريع بناء صوامع للحبوب (سايلوات) المخطط لها في عموم العراق , وكانت تقتضي استثمارات ضخمة اذا اخذنا بنظر الاعتبار ان عددها يتراوح بين 8 الى 10 من المنشآت الكبيرة المجهزة بتقنيات حديثة تسد حاجة البلاد الانية والمقبلة , بعد ان بات القائم منها في حينه عاجزا عن الوفاء بالمقتضيات .
تشكل وفد عراقي برئاستي , حين كنت رئيساً لمكتب الشؤون الاقتصادية بمجلس قيادة الثورة , وعضوية موظفين كبار من وزارات الخارجية والتخطيط والتجارة والمالية والبنك المركزي العراقي , لإجراء المفاوضات في مقر البنك في واشنطن . وكان المشروع المذكور يقع ضمن الخطة الاستثمارية لوزارة التجارة الداخلية كون المؤسسة العامة للحبوب المرتبطة بتلك الوزارة الجهة المعنية بالصوامع .
خلال الجلسات الاولى للمفاوضات طرح الوفد العراقي خلاصة حول مشاريع الصوامع من حيث اهميتها وعددها وطاقاتها الساكنة والحاجة الملحة لأنشائها كمجموعة دفعة واحدة وتبريرات اختيار مواقعها في مناطق العراق المختلفة وكلفتها التقديرية .
اما طاقم البنك الدولي المفاوض فقد ابدى موافقة مبدئية من حيث التمويل الا انه طرح ملاحظات وشروطاً من بينها شرطين مهمين :
الاول – تقسيم المشروع الى مجموعتين من الصوامع يجري تمويل المجموعة الاولى اولا ثم ينظر فيما بعد بتمويل المجموعة الثانية في ضوء عملية تنفيذ المجموعة الاولى .
والثاني – توفير مجال للقطاع الخاص يمكنه لعب دور في تملك الصوامع وادارتها .
حاولت منذ البداية ان يكون موقف العراق واضحاً امام البنك اختصارًا للوقت والجدل , فحددت ملاحظات البنك التي يمكن التفاوض بشأنها للوصول الى حل وقافية , كما شخصت الشروط التي ليس للجانب العراقي مجال التحرك بشأنها .
والقضيتان اللتان تمسكت بهما هما :
الاولى – جعل جميع الصوامع مشروعاً واحدًا لغرض التمويل . وفي حال اصرار البنك على موقفه بتجزئتها الى مجموعتين , فأن العراق غير مستعد لقبوله بتاتاً .
والثانية – الاقرار بكونها من مشاريع القطاع العام فحسب من حيث الملكية والادارة راجيًا البنك ان يتفهم الامر بوصفه جزءاً من النهج الاقتصادي الثابت في البلاد , وان أي محاولة للمساس به سيكون مصيرها الرفض .
وبعد مداخلات قصيرة بدا لي واضحًا ان البنك اصبح مستعدًا لقبول القضية الثانية , اما بشأن جعل الصوامع مشروعًا واحدًا , فقد تبين ان البنك سبق ان اتخذ قرار تجزئة المشروع على اعلى المستويات , وان أي تراجع عنه يحتاج الى موافقة رئيسه (مكتمارا) .
كان مكتمارا في حينه بمهمة رسمية خارج الولايات المتحدة ما دعا الى توقف المفاوضات عمليًا مدة يومين حتى يعود , الا ان رئيس طاقم البنك المفاوض , الهندي , اراد الوقوف على الامر تحديدًا وقطع الشك باليقين . فجاءني عضو في الوفد العراقي ذو صلات مهنية مستمرة مع البنك الدولي بحكم موقعه الوظيفي في العراق , يسألني في خلوة عن الموقف ” الحقيقي ” في حال اصرار البنك على تجزئة المشروع , فأجابت ان ليس من خيار امامنا سوى قطع المفاوضات والعودة الى بغداد . وللتأكد من ذلك عاد ليسألني ان كان هذا هو الموقف الرسمي النهائي , وكان سؤالا في غير موضعه , فكان ردي بالإيجاب , ثم انسحب وعلامات التعجب والحيرة ترتسم على وجهه ولم استبعد ان يكون مجيئه , بدفع من البنك نفسه للوقوف على حقيقة موقفنا , وما اذا كان ذلك اصرارًا ام اسلوباً تكتيكياً ! ومن اجل ازالة اي التباس اكدت لرئيس طاقم البنك المفاوض الامر مرة اخرى خلال حفل عشاء اقامها تكريما للوفد .
استقبلني مكنمارا في مكتبه في البنك بعد عودته , واتصف اللقاء بالحفاوة , مؤكدًا الرغبة بمد جسور التعاون مع العراق ودعم خططه التنموية , وكان سعيدا بالسجادة الانيقة التي تلقاه من الوفد والمطرز فيها تجسيم لـ ” اسد بابل ”
في اليوم التالي اصبح الطريق ممهداً للاتفاق على تمويل المشروع بمجمله بعد ان اعطى مكنمارا موافقته على مطالب العراق . وبالفعل تم التوقيع على الاتفاقية في مقر البنك في واشنطن باحتفال انيق دعي له رؤساء اقسامه . وكان الحفل مناسبة ليعبر لي بعض العرب العاملين في البنك عن سعادتهم وفخرهم لموقف العراق واصراره في المفاوضات .
بعد ابرام الاتفاقية مع البنك الدولي سارت الامور التنفيذية فترة بصورة اعتيادية , الا ان البنك ابرق الى بغداد , في احدى مراحل التنفيذ , طارحا تعديلا في مسألة اثار الاستغراب وعدّ مساساً بالاتفاق , وكان الحمداني وزير التخطيط على رأس الممتعضين. وعوض عن طرح الموضوع على الهيئة التوجيهية لمجلس التخطيط ومناقشته بروية , جاء رده الرقي على طلب البنك حاسمًا ويقضي بإلغاء التمويل برمته . بل حجب الحمداني عني ملابسات الموضوع في حين كنت قد ترأست الوفد المفاوض مع البنك وشاهدا على ما دار من مناقشات واتفاق . وهكذا اسدل الحمداني الستارة على محاولة اسهم هو في تبنيها لإكمالها انا دون تلمس أي دواء لشفائها .
مع ان الظروف المالية للعراق اصبحت افضل , الا ان التساؤل يبقى قائما حول مبرر توجه العراق لطلب التمويل وصرف الجهد والوقت لتحقيقه ثم عودته بعد فترة لإلغائه في ملابسات غامضة . ولا أظن ان الحمداني درج على هذه الخطوة ذات الطابع المالي / السياسي من دون تلقيه اشارة من امره رئيس مجلس التخطيط صدام حسين . وولد هذا الامر نقطة مضافة الى نقاط التوتر والخلاف حول السياسة الاستثمارية والانفاقية في البلاد.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة