حيدر الحجاج.. الكتابة عند حافة الرؤيا

لا يملك الشاعر إلّا أن يكون رائيا، وشرط الرؤيا يتحول من كونه لازمة انطولوجية الى ممارسة في التعبير عن هذه الأنطولوجيا، إذ يستعين الشاعر بكل حمولات اللغة- الاستعارة، المجاز، القناع، التورية، الاحالة- ليكون المائز في تمثلات تلك الرؤيا..
الشاعر حيدر الحجاج يتكئ على الاستعارة ليمارس وظيفة الرائي، وليكون- من خلالها شاهدا على ما يساكنها، وما يمكن أنّ تثيره، أو ما تجاهر به، إذ لا يجد الشاعر سوى هذه اللعبة/ الايغال في الاستعارة للتعبير عن وجوده القلق، والافصاح عن خوفه وخيبته..
في كتابه الشعري( عن الوردة وهي تُطيح بحياتي) الصادر عن دار ميزوبوتاميا/ بغداد يضعنا الحجاج أمام هواجسه الشعرية، وهي تلامس مرائر الوجود، وما يقابلها من مرائره الشخصية، حيث الفقد، والغياب، والوجع، والأوهام، النسيان، وحيث يلوذ الشاعر باستعاراته بوصفها طقوسا، للبحث عن ما يشبه التطهير والخلاص..
كي يتعرّف على خيبته
التي لازمته
منذ الولادة
بدت أشياؤه
قطيعا من المرارة…
قصائد الكتاب ليست قصائد سيرية، بقدر ما أنها قصائد(مشاهدات) إذ يلامس الشاعر ما هو يومي، أو ما هو غائر في وجدانه الجنوبي، حيث ذاكرة اللوعة، وحيث خفّة المعنى، وحيث شطارته في أنْ يبتكر المعاني الضد، والتوصّلات التي لاتصل إلّا إليه، فهو الوحيد المَعّنّي بهذه اللعبة وسرائرها، لأنه رائيها وشاهدها..
الوردة/ الخفّة عتبةٌ للكشف عن هشاشة وجود الشاعر، فهي استعارة أولى لما يليها من استعاراتٍ تُحيل الى يومياته، والى خيباته، فهو لا يملك إلّا خارطة اللعبة، لعبة، أنْ يلوذ باللغة، وأنْ يتطهر فيها، أو يتكىء على قوة تعازيمها وقدّاس قاموسها، حيث يجد الشاعر/ الجنوبي نفسه بعد فجائع الحروب والغزوات والخرائب وحيدا، لا يملك سوى أن يكتب مراثيه، الشخصية والسلالية والوطنية.. الكتابة هنا لعبة صيانية للوجود، ورغم تقاطعها مع سيولة اللغة واستعارتها النافرة، إلّا أنها تبدو وكأنها التعويذة التي يملكها الشاعر/ المُغني، حيث يستعيد عبرها ذاكرة الفقد، وشغف الحضور، فوسط عتمة الغياب، والحياة التي تُطيح بها الوردة، يدرك الشاعر سر اللعبة، تلك التي تبادل الكتابة وظيفتها، فكلاهما مباحان للرؤيا، والشهادة، مثلما هما مسكونان بذاكرة مفجوعة، هي ذاكرة المكان/ الحروب، ذاكرة الوجود/ الجنوب، ذاكرة الغياب/ الحضور..
أسفل الحروب
تتكاثر الشياطين والارامل
أما الرايات السود
فترفرف عاليا
لتلوك صبانا
ولاتئن
لذلك المشيب الذي يلوح على الأصابع
ويُمرّغ الحدقات بحلكته..
قصائد الكتاب/ المجموعة لا حدَّ لها في التعبير عن شعريتها، فهي مسكونة بما يمكن تسميته بكتابة الحافة، حيث يقف الشاعر عن حافة الرؤيا، أو حافة الوجود، وبما يجعل الكتابة وكأنها محاولة لإشهار تلك الرؤيا، ولممارسة شهوة الالتفات الى العالم، إذ كلُّ شيء يتداعى، ولا خلاص إلّا بالشعر، فهو التطهير، والسفر، والعري، مثلما هو مواجهة المحو، واستدراك مالا يُدرك.. وتقانة النثر في هذه القصائد تجعله أكثر تمثّلا لهذا الهمس والافصاح، إذ تنزاح اللغة- دون قيود- الى أفق استعاراتها، وكأنها صوت الشاعر الداخلي، الصوت الذي يندفعُ، صارخا، عاويا، مُحتجا على (حياة تُطيح بها الوردة) مقارنة بالحياة التي أطاحت بها الحروب والخيبات والمتاهات، وكأن هذا التقابل الوجودي بين الوردة والحرب هو جوهر الرؤيا الذي أراد الشاعر البوح به عبر قصائده التي ظلت تشبهه، فهي تتوسد حجرا كما يقول الحجاج ذاته…
علي حسن الفواز

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة