د.ثائر العذاري
كان أستاذنا الراحل د.ناصر حلاوي رحمه الله من أكثر من تأثرنا أنا وزملائي بهم من الكبار، فقد كان حريصا على أن يعلمنا أخلاق الباحث قبل أساليب البحث، وكان يركز على خصلتين اثنتين؛ أما الأولى فهو الإصغاء للآخر الذي كان شديدا في تدريبنا عليه، بل كان هو أنموذجا ومثالا لمن يحسنه. كان يرى أننا حين نستمع للآخر ونفكر في الوقت نفسه في الرد فإننا نضيع 70% مما قاله. وأما الثانية فهي التواضع، فقد كان يرى أن الكبر يدل قطعا على الجهل، لأن الباحث الجاد يزداد شعوره بالجهل كلما تعلم أكثر، فكل جديد يتعلمه يفتح أبوابا لأشياء أخرى لا يعرفها، وكلما ازدادت المعلومات ازدادت المجهولات أضعافا.
تذكرت أستاذي الراحل وأنا أشارك في مؤتمر السرد الثاني، إذ رأيت أنموذجا يشبهه من المثقفين والباحثين، هو الناقد ياسين النصير الذي حالفني الحظ بمجالسته في ليالي المؤتمر الثلاث، فوجدته نسخة من أستاذي ناصر حلاوي. فكان حين أتحدث يصغي إلي بطريقة تجعلني أشعر أنه يتعلم مني، والحق أن ما قرأه النصير في حياته قد يكون ضعف مجموع وزنه ووزني من الكتب، ناهيك بمنجزه الطافح بالجدة ومشروعه النقدي الواضح المعالم.
يبهرك النصير بصوته الهادئ الذي لا يرتفع فوق صوتك، وطريقة صياغته للعبارة بحيث لا تكون قاطعة جازمة، كان حين يريد تصويب حكم نختلف فيه يقول: ما رأيك لو قلنا كذا بدل كذا؟ والصياغة نفسها كان يستعملها حين يريد تصحيح خطأ وقعت فيه.
يشعرك النصير حين تجالسه بالصلة الوثيقة بين الحرية والبحث، فهو يمكن أن يفكر معك، بمنطلقاتك الفكرية أنت ويصل إلى نتائج، فتفكير النصير غير مرتبط بإيديولوجية أو مذهب فلسفي بعينه، في جلستنا الأولى كدت أقطع أن النصير بنيوي إلى العظم، حداثوي لا يرى جدوى في أن تعود إلى التراث لتفيد منه في بحث علمي. بينما رأيته في الليلة التالية قارئا هضم التراث الأدبي العربي، يرى أن فيه الكثير مما أهملناه وكان يمكن أن ينفعنا في قراءتنا الشعر والسرد المعاصرين.
عندما عرضت أول فصل من رسالتي في الماجستير على أستاذي الراحل د.علي عباس علوان رحمه الله أواسط 1987 حدث ما جعل ذلك اليوم درسا قاسيا في حياتي لا يمكنني نسيانه أبدا، فقد وجد أني بدأت إحدى فقرات البحث بعبارة (يجب أن….)، قال لي: على من توجب هذا يا ثائر؟ (يجب أن) هذه قلها لطلبتك.. يجب أن تقلموا أظافركم وتغسلوا وجوهكم، في الدرس الأدبي لا شيء مقطوع به، فما دام النص قابلا لأن تراه من زوايا متعددة فلا يحق لك أن توجب زاويتك أنت على غيرك. ووبخني بطريقة جعلتني أشعر إلى اليوم أن عبارات مثل (يجب أن ولابد ولا مناص ولا مفر وأجزم وأعتقد) إنما هي ضرب من الكفر البواح الذي يلقي بيدي صاحبه إلى التهلكة، يحرم على الباحث استعمالها وحرمتها على نفسي إلى الأبد كأن لا وجود لها في معاجم العربية. لقد كنا محظوظين -أنا وجيلي- أن تعلمنا على يد كبار كان يهمهم سلوك الباحث العلمي وشخصيته أكثر من علمه ومقدرته على الالتزام بالسنن والمناهج، فالعلم يمكن أخذه من الكتب، أما السلوك فهو تمرين لا يمكن أن يتعلمه الإنسان إلا على يد معلم.
ضع هذه القامات أمام أنموذج آخر من الباحثين، ما تحدثه عن عالم أو ناقد إلا فاجأك باتهامه بالخطأ والضلال وربما الغباء والجهل، يلقي التهم جزافا، فإذا طالبته بالدليل ترك مجلسك كأنه يقول لك: وأنت أيضا جاهل مثله.
أو آخر وصف جنسا أدبيا بصفة ما، صفة شائعة قالها العشرات غيره، ولكنه لم يقرأهم، فسماها مصطلحا، فصار يتصرف كما لو أنه قد فلق الحبّ والنوى، إذا جالسك لا ينظر في وجهك، بل يشيح عنك موجها نظراته إلى السقف، ثم حرم تلك الصفة التي استعمالها على غيره، فما أن يتورط أحد باستعمالها حتى يتهمه بالسرقة. وسأفرض أنه أتى بمصطلح لم يلتفت إليه من قبله، فما نفع المصطلح إن لم يوظفه الآخرون في كتاباتهم؟ أنا الذي ما غادرت يوما شعوري بأني تلميذ أتعلم حتى من طلبتي، كتبت أكثر من مرة كلمات أصف فيها ظاهرة ما، ثم صارت بعد ذلك مصطلحات شائعة، فكان هذا يفرحني ويشعرني أني قد أصبت في ذلك الأمر.
كان أجدادنا حين يتناظرون أو يكتبون يصفون أنفسهم بأبشع الصفات (العبد الحقير، الفقير، المتطاول، الجاهل…..)، حتى يكسروا ما قد ينمو في نفوسهم من كبر، ورحم الله أبا نؤاس الذي خاطب إبراهيم النظام المعتزلي بالقول:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة *** عرفت شيئا وغابت عنك أشياء.