نهى جعفر
تضج الساحة الأدبية بدوي المنجز الشعري الهائل الذي اجتاحها من كل حدب وصوب وبأقلام بعضها قدمت له وبعضها فخخت الساحة بفن دخيل يتقوقع داخل فقاعة تسمية الشعر ..سرعان ما تنفجر عنه لتتركه عاريا بلا تسمية …..عصر السرعة الذي نعيشه جاء بالكثير , وأخذ الكثير ….
ولكن مما يثلج الصدر أن تجد أقلاما شابة تعتنق دين الشعر كما أنزل , بأوزانه العذبة وصوره الرائقة التي تثير في المتلقي ذلك الحس الجمالي المدهش لتقدم دررها في الحب والحرب , والوطن والمنفى , والأنا والآخر ….
قصائد تتغنى بالجمال لتزيده جمالا وتلج إلى الحزن لتقدمه برؤية المستقبل الواعد وهو يتجاوز تلك الرؤية الواقعية القاتمة لما نعيشه من ركام وكأنهما عصفوران يعتليان تلك الأكوام القاتمة ..
ما زلت رغم النائبات صبيا
وبقيت رغم الحاقدين بهيا
فأنرت ظلماء العروبة بعدما
سمتك قربانا وكنت سخيا
يشخصن الخطاط وطننا الجريح ..يخاطبه مواسيا إياه ومعليا شأنه بتلك اللغة الواضحة المتاحة للفهم التي لا تخص متلقيا دون غيره , فالأزمة الراهنة بحاجة مسيسة للقلوب المنقادة المتهاوية على جرحه النازف ..يتعمد الشاعر أن يلبسها لباسا رسميا – شكل القصيدة العمودية- فلطالما تحملت تلك القصائد دورا تعبويا في الأزمات والحروب وما أشوقنا لإطلالتها الشيقة في أيامنا هذه …
كتبوا بأفكار التطرف حقدهم
سموك مرتدا وصرت شقيا
جاءوك في ليل الصيام وفجروا
بغداد واختضب الفرات دميا
نصبوا عزاءك في المساء وكبروا
فمضت دماؤك كوكبا دريا
وقد تتجلى سوداوية الواقع وقلقه في أحلام الشباب , من خلال الحديث عن الموت والرحيل عن هذا العالم المأساوي:
أخاف من فكرة المنفى الأخير ولا
أحب في الموت أني سوف أرتحل
لأنني كلما فكـــرت في زمن
أكون نسيا به , ينتابني الخجـــــل
أخاف من دمعة في عين والدتي
إن لم أكن في مدار الشـوف تنهمل
ويستمر الشاعر مصعب علي برؤيته المتفاعلة مع الوطن ..الوطن العربي وكأنه يطلق صيحة العراق في زمن الوجع الذي لم يستثن فردا ولامكانا :
أحتاج لافتة أعلقها
في كل قطر: (يخسأ العرب)
عن أي عضو قد أحدثكم
كلي بكلي رامه التعب
لكن أكثر مايؤرقني
عضو بجسمي اسمه حلب
تمتد رقعة الألم والخيبة إلى مكان أبعد بكثير من المكان الجغرافي المحصور بوطنه العراق , وربما كان لخيال الموصل الجريحة حصة في كتابات الدكتور مصعب علي ..فالمشرط الذي يستعمله في شق جسد الإنسان يتحول إلى قلم نابض بالحياة يتمثل مجتمعه وتآوهات عصره وربيع الموصل الذي رحل منذ زمن.
أخاف من وطن قد لا أراه كما
أشاء إلا على كراسة الرسم
أخاف من كتب الأشعار يؤلمني
أني أرى وطني روحا بلا جسم
أخاف من هاجس أجلته زمنا
وعاد يبحث في عيني عن حسم
أخاف أني سأمضي دون محفظة
في الجيب تخبرني في رحلتي ما اسمي
ذات الأنين يتردد صداه في هذا النص للشاعر جعفر الخطاط :
عطفا على حزن العراق بذاتي
ها قد أتيت مكبل الخطوات
وتركت خلفي ألف آه خطهــا
زمن الحروب بدجلتي وفراتي
متوكئا فوق الجراح وحسرتي
تمضي معي لسراب موت آت
الموت الذي يغازل كل تفاصيل حياتنا , بلا موعد ينقش اسمه على مستقبلنا وعلى أحلام الشباب في بلدي وعلى الرغم من كل هذا , مازال هناك متسع من الأمل فللحب مكان وللعشق وللغزل مكان , ومازالت الحبيبة تحتفظ لعينيها بوقع لا يبارح الشعر ونبضة لا تهجر القلوب, مواعيد للوجد والشوق , وأنين للفراق ,فالحياة هي الحياة بحر من العطاء على الرغم من ازدحام القاع بالبقايا والموت ولذا يخاطب الخطاط محبوبته بلسان الكهل الذي يندب عمره ولكنه لا يتوقف عن العشق:
عيناك بحر من الإلهام والصور
وقارب العمر يشكو شدة الكبر
أحتاج قلبا به الأشواق تسعفني
أو معجزات تعيد العمر للصغر
أما شاعر أم الربيعين مصعب علي فمازال فتيا يبحث عن وصال محبوبته:
مرة قال لي:
لا أحب الجفا….
قالها ….واختفى
ليته حينها ….
حين قال.
لا أحب الوصال
الكثير من التحديات تواجه ذلك الشعر الذي ما زلت مؤمنة أنه ديوان العرب وهويتهم وفي هذا الزمن بالتحديد زمن الفوضى والجماليات المزدحمة في كل مكان من خلال مواقع التواصل الاجتماعي على الشعر أن يجد منفذا جديدا يتوسط بين التقليد الممل والغموض المفتعل ليجد لنفسه طريقا جديدا يعيد له بريقه وحضوره المتميز حبذا لو كانت البداية مع تشجيع الأمسيات الشعرية وإقامة المهرجانات والبرامج التي تتكئ على ذائقة متزنة لتقديم الأقلام التي تضيف للشعر لا تلك التي تزيده وهنا واصفرارا.