د. فخري قدوري
الحلقة 2
الدكتور فخري قدوري من أوائل البعثيين في العراق يكشف في كتاب ” هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث” معلومات عن صدام حسين الذي جمعته به علاقة عمل فرضت ملاقاته يومياً لمدة ثماني سنوات، ويقدم صورة واضحة لشخصية متواضعة في البداية، ومنتهية بتسلط ونكبات متتالية، حسب تعبير المؤلف.
وفي الكتاب أوصاف دقيقة لأحمد حسن البكر وصدام حسين وجوانب من عاداتهما الشخصية لم يطلع عليها غير المقربين منهما.ويصف المؤلف كيفية انتمائه إلى حزب البعث وسيرته الحزبية وتجاربه مع رفاقه في الحزب “بعد أن أصبح الحزب في نهاية الأمر محكوماً من قبل شخص واحد وأصبحت تنظيماته تحت مظلة الإرهاب تنفذ رغبات الحاكم المستبد”.
“الصباح الجديد” تنشر فصولاً من هذا الكتاب نظراً لدقة المعلومات التي سردها الدكتور فخري قدوري حول مرحلة الاستبداد والتفرد وطغيان صدام حسين.
بذل بورقيية ما في وسعه لإنجاح مهمة الوفد في تونس والسهر على راحته .
ومما يدور في خلدي تنظيم فرقة تونسية فنية حفلا انيقاً , على مسرح قاعة انيقة في الطابق الارضي من قصر الرئيس ,تتضمن ضروباً جميلة من الغناء والرقص الشعبي , وكان بورقيية وصدام جالسين في الصف الامامي يتابعان مع بقية اعضاء الوفد عروض الفرقة .
كان صدام بلا شك في غاية السعادة بتلك الزيارة وللحفاوة والاهتمام الخاص الذي حظي الوفد به .
في ضل هذه الاجواء تنامى استعداد العراق لمساعدة تونس مالياً واقتصادياً , وكان استقبال افواج التونسيين للعمل في العراق مفهوماً في اطار هذا السياق .
بعد مضي ستة اعوام على تلك الزيارة توجهت الى تونس لحضور اجتماعات لجنة التنسيق بين المنظمات العربية في نطاق الجامعة العربية ,
وكنت في حينه اشغل منصب الامين العام لمجلس الوحدة الاقتصادية .
وخلال حفل عشاء دعاني اليه السفير العراقي في تونس عرجنا في الحديث على تلك الزيارة وخروج بورقيية شخصياً لاستقبال صدام حيث سمعت من السفير ان بورقيية يشير الى تلك الواقعة بين الحين والحين الآخر منوهاً بخطوته الحكيمة لأنه –طبقاً لما نقل على لسانه- كان على يقين من تولي صدام يوماً ما موقع الرجل الاول في العراق , وهو ما تحقق فعلا عام 1979!
من أسباب تدهور علاقتي مع صدام
بدأت علاقتي بصدام تتدهور منذ منتصف السبعينيات تصاعداً مع تراكم الاحداث , ومن بينها :
زيارات ديفيد روكفيلر لبغداد :
كان السيد ديفيد روكفيلر – رئيس البنك الاميركي العملاق جيس مانهاتن وذو المركز الخفي في السياسة الاميركية – يأتي بطائرة خاصة لزيارة بغداد بين الحين والحين الآخر . وكنت اتسلم من مكتب صدام اشعاراً هاتفياً بيوم وساعة وصول روكفيلر , وطلب استقباله في المطار .
وبعد الاستقبال واستراحة قصيرة في صالة الشرف كنت اودعه ليذهب بسيارة مخصصة لهذا الغرض , فيما بقي مكان اقامته وطبيعة مهمته والشخصية التي يلتقيها محجوبة عني .
ولم اشأ الاستفسار من مكتب صدام عن الامر في حينه –وان من باب الفضول – تجنباً لتفسير سؤالي بقصد غير مرغوب وتحاشيا للرد عن سؤالي بجواب مكذوب .
لكن روكفيلر – المعروف بكياسته ودماثته – كان يزورني زيارة مجاملة في مكتبي في المجلس الوطني , حيث كنت رئيسا لمكتب الشؤون الاقتصادية لمجلس قيادة الثورة .
وهكذا تكررت زياراته ومراسيم استقباله وتوديعه . وفي احدى زياراته اخذ يتحدث معي في امور خارجه عن الامور الاقتصادية والمالية وتقع في صلب الشؤون السياسية والامنية . شعرت بالدهشة وأجبته بصيغة عبرت عن عدم رغبتي بالحديث في تلك الشؤون .
بعد تلك المقابلة وجهت كتاباً الى مجلس قيادة الثورة طالباً فيه اعفائي من مهمة استقبال روكفيلر لتجنب الحديث معه في امور خارج نطاق عملي ,ومقترحاً قيام عضو من مجلس قيادة الثورة بهذه المهمة , وبذا لم اعد اسمع متى يأتي روكفيلر ومتى يغادر . ويبدو انم صدام لم يكن مرتاحاً لموقفي الذي قد يكون سبب له احراجا شخصيا .
رحلة الصيد في بلغاريا :
في زيارة صدام الرسمية الى بلغاريا على رأس وفد كبير لتعزيز العلاقات بين البلدين بعد تأميم النفط , صادف وصول الوفد الى العاصمة صوفيا عطلة نهاية اسبوع . ولم تمض ساعة على استقرار الوفد في دار الضيافة حتى اعلم ” السيد النائب ” تشريفات الجانب البلغاري عن رغبته بالخروج الى رحلة صيد ما ادى الى ارباك واسع في الجانب البلغاري نتيجة الرحلة المفاجئة التي ارادها صدام والتي لم تكن واردة اصلا في برنامج الزيارة .
عمل البلغار المستحيل لتلبية الرغبة وأجروا الترتيبات السريعة المطلوبة ,وطلب صدام من جميع اعضاء الوفد مرافقته الى غابة الصيد . وفي النادي المقام عند مدخل الغابة هيأ له البلغار الملابس الخاصة بالصيد ليرتديها قبل الانطلاق بسيارات (جيب) قادرة على السير في ممرات الغابة الضيقة التي غطاها الوحل بسبب المطر .
وقبل الانطلاق بالسيارات تناول صدام البندقية وصوب على هدف بعيد ليقيس مدى الانحراف في اصابة الهدف ثم انطلق الجميع تتقدمهم سيارة الادلاء وتتبعها سيارة صدام ومن ورائها سيارات اعضاء الوفد , في ظل طقس بارد رطب وممطر . كان الركب يتوقف في الغابة بين الحين والحين , ويترك اعضاء الوفد سياراتهم لمشاهدة التصويب الدقيق للسيد النائب , ويعبرون عن اعجابهم كلما خر ايل او خنزير صريعاً . لاحظ صدام انني لم اكن من بين المشاهدين , فأستغرب وامتعض , وارسل الدكتور صادق علوش – احد الاطباء المرافقين الذي اصبح وزيرًا للصحة فيما بعد – يطلب تركي السيارة وحضوري مشاهد التصويب . بقيت جالسًا في السيارة واخبرت الدكتور علوش ان صحتي لا تساعد على الوقوف في مثل هذا الطقس ورجوته اخبار صدام بذلك . لم يكن علوش يصدق موقفي هذا واخبرني ان صدام يصر على حضوري وحذرني من عدم تلبية رغبته . عندها اضطررت الى الترجل لتجنب العواقب . وهكذا انتهت المسيرة في الغابة ورجع الوفد الى دار الضيافة حيث القيت امام بابها الضحايا من الايائل التي صرعها صدام في رحلته , بعدها دخل صدام دار الضيافة وفي قلبه غيض على عدم قيامي من تلقاء ذاتي بمشاهدة عملية صيده الا بعد ارساله رسولا لهذا الغرض , وهو ما علم به الجميع .
خطة التنمية الخمسية :
حين تولى عدنان الحمداني منصب وزير التخطيط في 11 تشرين الثاني / نوفمبر 1974 كان التحضير لمشروع خطة التنمية الخمسية الجديدة 1976-1980 احد مهامه الكبرى . وكانت مناقشة المشروع تجري كالعادة في البدء من قبل الهيئة التوجيهية لمجلس التخطيط قبل رفعها الى المجلس المذكور لاعتمادها , وكنت آنذاك عضوًا غير متفرغ في كل من الهيئة التوجيهية ومجلس التخطيط . وتبين لي ان الخطة جاءت ضخمة جداً وتتجاوز بكثير طاقة البلد على تنفيذها , وحذرت من ان ذلك سيؤدي الى ارتفاع اسعار العقود من دون مبرر والى شحة المواد امام القطع الخاص , الى جانب احداث خلل في الدخول الشخصية . وشاركني في الرأي اعضاء اخرون .
كان عدنان بين فكي كماشة : ضغط المعايير الاقتصادية التي تميل الى جعل الخطة واقعية , وضغوط رفاقه الوزراء اعضاء مجلس قيادة الثورة الذين يطالبون بتضخيم مشاريع وزاراتهم لأغراض سياسية / اعلامية . واراد عدنان التخلص من الاحراج فمال الى احالة مشروع الخطة كما هو الى مجلس التخطيط , حيث بإمكان كل عضو طرح رأيه وانتقاده .
في اجتماع موسع تم في القاعة الكبرى للمجلس الوطني التأم مجلس التخطيط برئاسة صدام وحضره رئيس الجمهورية واعضاء مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية والوزراء الى جانب الاعضاء غير المتفرغين في مجلس التخطيط ورؤساء الدوائر الفنية في وزارة التخطيط .
بدأ النقاش في الاجتماع وبدأت معها نقطة الاحتكاك بصدام , فبعد ان اعدت طرح رأيي المذكور سابقا توالت اصوات من الوزراء غير البعثيين مؤيدة ما طرحت بشأن ضخامة الخطة وما تجر الى سلبيات تأخذ شكلا تراكميا على الامدين المتوسط والبعيد .
استشاط صدام غضباً من طرحي وتأييد الاخرين , في وقت كان يبغي تلبية رغبات رفاقه القياديين الوزراء بقاعدة هائلة من المشاريع الى جانب تلبية طموحه كقائد لخطة التنمية ( الانفجارية ) . اما المعايير الاقتصادية التي سعت الخطة السابقة للالتزام بها فكانت من وجهة نظره أمرا في المرتبة الثانية , فبدأ صدام يرد على جانب ثانوي من الطرح الذي عرضته , في وقت التزم عدنان الحمداني جانب الصمت ومراقبة الموقف .
اضطر صدام في النهاية الى التراجع ووقف في القاعة امام الجميع ليعلن اعادة مشروع الخطة الى وزارة التخطيط للنظر فيها مرة اخرى . وكانت مظاهر الاستياء والامتعاض ظاهرة على وجهه ونبرات صوته , وسجلها نقطة سلبية على تصرفي تجاهه .
قرض ضخم من بنك (يوباف)
صدر قرار بتأليف لجنة – كنت احد اعضاءها – لوضع الحدود القصوى للمنهاج الاستثماري والميزانية العامة لعام 1975 , بعد ان سادت في تلك الفترة توجهات لاستثمارات كبيرة وانفاق ضخم يتجاوز امكانيات البلاد الاقتصادية والمالية . وقامت اللجنة بالتنبيه الى خطورة الوضع , وطرح تقريرها في اجتماع موسع ضم مجلسي التخطيط والوزراء والقيادة القطرية . الا ان وقائع الامور سارت فيما بعد باتجاه معاكس .
وفي اوائل عام 1976 قرر مجلس قيادة الثورة , مرة اخرى , تأليف لجنة برئاسة وزير التجارة الخارجية – وكنت عضوًا فيها – لبيان الرأي في حدود الانفاق والاستثمار العامين , وعادت اللجنة محذرة من مغبة الممارسات غير المسؤولة وتجاوز الحدود المعقولة , وطرح تقريرها على رئيس الجمهورية في حينه احمد حسن البكر واعضاء القيادة القطرية خلال اجتماعهم يوم 3 شباط/ فبراير 1976 , الا ان التصرفات الخاطئة لم تتوقف .
وكان صدام حسين متضايقاً من تقارير هذه اللجان بحكم ما تعنيه من نقد للسياسة المالية والاقتصادية التي يشرف عليها