زهير الجبوري
استوقفتني تجربة الشاعر عبد الهادي عباس مرات عديدة ، فقد عرفته شاعراً متأنياً لا يركب موجة الفوضى ومغامرات التجريب وفوضى الكتابة الشعرية المتشظية ، انما يعلن صراحة تمسكه بلون القصيدة الحديثة التي احترفها منذ سبعينيات القرن الماضي، وعلى هذا الأساس اطلت علينا تجربته وهي تحمل مناخات شعرية تفردت بلغتها الحلمية واحساسها الغنائي ومشروع القصيدة ذات البناء الدلالي، ولعلنا هنا نقف عند اخر اصدار له ، وهي مجموعته (او.. هكذا هي العاصفة !!) ، لتتحكم في طياتها سلسلة من المتواليات المتراكمة لـ(الصورة) والـ(حبكة) و (الفضاء اللّغوي)، وما الى ذلك ..
اتناول تجربة عبد الهادي عباس هنا (ذوقياً) ، لسبب ينطوي على تشكلات الشاعر في جعل قصائده عبارة عن لوحات سريعة البناء والتشكل ، او لنقل هي قصائد مشبعة بشعرية غنائية /ذاتية /شفافة ، بعيدة عن قصدية الغموض وفضاءات اللّعب اللّغوي المشحونة بتغريبات مقننة. في الوقت الذي حاول فيه الشاعر كسر هذا الحاجز، انطلاقاً من العنوان مروراً بفنية التصميم لغلاف المجموعة، لكنه اخذ على عاتقه التمسك بلون القصيدة التي كتبها منذ بواكيره الأولى ..
تحيلنا قصائد (او .. هكذا هي العاصفة ) الى الوقوف عند قناعة نقدية فحواها ان ( كل قصيدة جنس في حد ذاتها) ـ بحسب الفيلسوف الايطالي كروتشه ـ ، ذلك لأن جلّ القصائد اقترنت اقتراناً وثيقاً بمدركات واحاسيس الشاعر، استنهضت حالة الشعور العقلي، وهي تنتمي الى فعل القرار من خلال جدل المضمون، وهناك قصائد انتمت الى الشعور العفوي ، تلك التي تخللتها حالة الشعور (السنتمنتالتي) مع حضور الاحساس الوجداني، كل ذلك لم يعط لهذه التجربة مشروعاً شعرياً ، بقدر ما تنطوي عليه من موضوعات اقتربت بعضها مضمونيا واختلف في مناطق اخرى ، ولكني هنا أجزم بأن التلقائية أحكمت الصنعة الشعرية عند عبد الهادي عباس ، وهذه تحسب له ..
ما يلفت النظر في هذه التجربة، انها تخشى الأبتكار من خلال توالد الصور الشعرية بأداءات متناظرة وشواهد اجتمعت في بوتقة واحدة ، وتعددت في عنوانات متفرقة ، ولنا في ذلك نماذج كثيرة من القصائد التي احتوتها المجموعة، ربما يعود الأمر الى ان فضاءات الشاعر تحكمها لغة بنائية لا تقبل الخروج او التحديث لما تقتضيه تقانات القصيدة المعاصرة ..
وفي سياق تحليلنا ايضا ، لا بد من الاشارة الى فعل الاداء الشعري تكرس في كون النصوص عبرت عن حالات لحظوية ، حالات تعبر عن انفعالات عاطفية لمواقف معينة ، امسك خلالها (عبد الهادي) ثيمة لموضوعته لينتقل الى حالة شعورية اخرى ، وهو بذلك يكشف عن حالات يومية (لا اعني شعراً يومياً) ، انما مشهدية اليومي كسلوك يلتقط المواقف والاحاسيس المباشرة ..
نقرأ في قصيدة (صورة أبي) تراجيديا شعرية لمشهدية يومية لصورة (الأب):
في صورته الأولى ..
كان (أبي) بني اللّون ..
في الثانية .. كان يميل الى الأصفر
في الثالثة .. ثلجياً كان .. ) الخ (ص5) .
سرعان ما قرأنا مشهدية اخرى للنصوص ( 1ـ توقيع ، 2ـ النهر ، 3ـ النص ، 4ـ الفئران ) ، ثم قصائد (الطيور) و(الزائر) و(البيت) ، تكشف عن وضوح لغة الشاعر والامساك بخيوط مواقفه التي تعبر عن رؤى تسبح في فضاء واحد ، بل عبرت عن الإمكانية التي يتمتع بها الشاعر، (فالقصيدة من وجهة نظر الشاعر تجسم موقفاً عاطفياً بسيطاً او منفردا ، انها قصيدة تعبر مباشرة عن حالة او عن الهام غير منقطع ـ بحسب عز الدين اسماعيل ـ ..
احيانا تسحبنا قصائد الى منطقة (المنولوج الداخلي)، لكنها لا تخرج عن حدودها البنائية من حيث تشكلها الفني، ربما لأن عبد الهادي عباس لا يجيد البوح ، وهي مسألة ذات تكوين نفسي ، لكنه شديد الأهمية، لأنه اصبح جزءا من شعرية الشاعر، ولعل شعرية المنولوج تستنهض وعي الشاعر في لا وعيه في حالة التشكل، وبطبيعة الحال تدخل خيوط الخيال وسمات البناء الذهني بوصفها عوامل اساسية في خلق بنية شعرية متكاملة الدلالة، نقرأ في قصيدة (الحالم):
جاءكم حاملاً همّه
أجلوا لومكم .. بعد ما تسمعون
وا كان مندهشاً ..
(ثم بعدها):
امنحوه المدى .. وهو يطوي مسار الحتوف..
دعوه يغازلها بشجون .(ص44).
ككل، قدمت المجموعة الشعرية (او .. هكذا هي العاصفة) انموذجا اولياً لكسر مألوفية تجربة عبدالهادي عباس من خلال العتبات الأُول لـ(العنوان) و(التصميم / غلاف المجموعة) ، وطريقة توزيع القصائد، لكني أجزم بأنه بقي داخل اطار فضاءاته الأُول ، لذا ننتظر منه ان يقدم تجربة تتماهى مع التحولات الجوهرية التي مر بها الشعر بعامته , والتجربة العراقية بخاصتها، ومن خلال التواصل الجاد ستعطي هذه التجربة فحواها ومواكبتها الحقيقية لما هو جديد ..