طارق متري
لا يخفى على أحد أن للذاكرة الفردية والجمعية حارساً، حافظاً لها وفي الوقت نفسه يكون رقيباً عليها. فهو يبعد الذكرى المزعجة عن الوعي من دون أن يمحوها من الوجود وله قدرة على تنظيم محتوى الذكريات وإعادة ترتيبه لحمايتنا مما يؤذي ويدمّر.
برغم ذلك، فإن أحداث الماضي تلعب معنا أحياناً لعبة خبيثة، لا نفلت منها إلاّ بجهد كبير من التطلُّب، ذلك أن الذاكرة المجروحة والمكبوتة غالباً ما تؤدي إلى الغلوّ في ردات الفعل على أحداث الحاضر.
ليست الذاكرة مطابقة للتعلق بالموروث. ولا يفترض تنشيطها بالضرورة خيار التمسك بالتقاليد. فهذا الأخير يشي بمنحى فكري وسياسي لا يكتفي بالدفاع عن التقليدي بوجه الحديث بل ينزع إلى إضفاء المعيارية أو الانموذجية عليه، ويفترض نوعاً من الأمانة للماضي.
وتستدعي الإرادة الواعية في تنشيط الذاكرة، ومعها الدوافع، الأخلاقيات الفردية والسياسية، لا سيما حين نعود إلى الماضي لنتحدث عن الحاضر أو نستشرف المستقبل. فنحن، على حد قول المستعرب الفرنسي جاك بيرك، غالباً «ما نسحب المستقبل من الذكرى .»فإذا تأملنا في صناعة «خرافات الأصل « التي يتحدث عنها أحمد بيضون في معرض النظر في ما يسميه أبهة التاريخ المنفصل « لطوائف لبنان، يتبين لنا أن مشروعية سياسة التعبئة والتبرير أو التنديد والإتهام، تتدبّر أمرها مع الماضي، البعيد أو القريب، بحسب الحاجة. ويصعب على القادة المتحكمين وفي مقدمهم ذوو الموهبة والجاذبية، أن يخفوا رغبتهم الجامحة في السيطرة على الذاكرة الجمعية، فيعيدوا اختراعها بحجة إنعاشها، وعلى هذا النحو يطمحون إلى الاستيلاء على منابع المشروعية. غير أن النخب السياسية في الأنظمة الديموقراطية لا تحتاج إلى توظيف الذاكرة في خدمة المشروعية، بالقدر نفسه في الأقل. ولعلّها أقلُ اضطراراً للالتفات صوب الماضي لبناء المستقبل، ولو أنها لا تستطيع إغفاله. فالديموقراطيات تقيم مشروعيتها لا على الإنتخابات فحسب، بل أيضاً على نصوص تأسيسية من الماضي، مثل الدستور، وهو جزء من الذاكرة المشتركة وإرادة العيش معاً حسب قواعد متفق عليها.
وإذا كان صحيحاً أن المشاعر الأكثر انسجاماً مع الديموقراطية هي التي تتطلع إلى المستقبل. فإن بعض المشاعر والمواقف الملتفتة إلى الماضي، تنسجم مع الروح الديموقراطية، لا سيما ما يتّصل باستعادة خبرات الحياة المشتركة. ويصح ذلك لأن الديموقراطية متعددة المعاني. فهي، في حدها الأدنى، طريقة لتغيير الحكومات من دون اللجوء إلى العنف. وهي أيضاً نوعية علاقة بين القوى السياسية تحترم الذاكرة المشتركة، وبخاصة نصوصها التأسيسية كالدستور، وتعزز المشاركة العقلانية والمنصفة في السلطة. كما تفترض المناقشة المستمرة والحوار المفتوح من جهة أولى، والالتزام بالاتفاقات من جهة ثانية، وأياً كان من أمر التوتر بينهما. ويظهر هذا التوتر بوجه أخص في الانتقال من نظام قوي ومتسلط إلى نظام ديموقراطي وضعيف، من نظام مستقر وتابع إلى نظام مستقل وغير مستقر. والتوتر قائم أيضاً بين ضرورتين: الخروج من العنف بوسائل سياسية، والاستجابة لطلب العدالة. ومن شأن السعي إلى احتواء هذا التوتر وذاك أن يدفعنا إلى اتخاذ قرارات وإنشاء مؤسسات تساعدنا على أن ننسى شيئاً ونتذكر شيئاً آخر. فكثيراً ما يقال إن الذين ينسون الماضي محكومون بتكراره، فيما أصوات أخرى تؤكد أن التخطي شرط المستقبل، وهو متعذر من دون نسيان الماضي حتى لا نسمح للأحقاد القديمة بأن تدمر إرادة العيش معاً، وهي شرط للنهوض الديموقراطي. لهذا السبب، أو بالأحرى للسببين معاً، تحتاج المجتمعات التي تنشد السلم بعد الحرب إلى معالجة الذاكرة والعمل على شفائها. فحين نتذكر المصائب نتذكر من أنزلها بنا فنأخذها عليه، ويكون ذلك انتقاماً وإن بصورة رمزية. وإذا ما كان متعذراً منع الإنتقام بكل صوره، فإنه يستحسن أن ننزع عن الكراهية ديمومتها بواسطة الفعل السياسي.
والسياسة، في هذا السياق، تتحمل عبئاً صعباً لا سيما في مجتمعات ما بعد الحروب الأهلية، عنيتبه كشف حقائق الماضي من دون الإنزلاق إلى عد خلافات الحاضر مواصلة لحروب الماضي. الذاكرة إذن قابلة للتوسل، وهي متوسّلة. وتتحول أداة سياسية عن طريق اختيار توقيت إيقاظها وسياقه. والإيقاظ ليس عملية بريئة، بل هو في حقيقة الأمر إعادة تركيب أو ترتيب.
يعرف الجميع أنه، في بلد كلبنان، ليست الذاكرة التي يعاد تركيبها مشتركة. فالذاكرة الخاصة بكل طائفة أو جماعة سياسية هي موضوع الصناعة الأول مما يزيد أهمية البحث عن الحقيقة. لكن البحث عن الحقيقة يتطلب جهداً مشتركاً على أن تكون المصالحة قصده الأول. والحقيقة شرط للمصالحة. بالطبع إن البحث عن الحقيقة الموضوعية القانونية هو شأن المحاكم، فتكون حقيقة تحرّر وتضع حداً للإفلات من العقاب، وتسهم في ردع العنف. غير أن نشدان الحقيقة من أجل المصالحة متعدد الأبعاد. فهناك بعد الوقائع والبعد الشخصي. ويظهر البعد الثاني في روايات الضحايا وشهاداتهم، في قصة آلامهم ومخاوفهم.
والحقيقة الطالعة من التجربة أو المعاناة قابلة لمشاركة أكبر بين الذين تفرّقهم الولاءات السياسية والإنتماءات الطائفية. وهي تحتمل المقابلة والمقارنة والمناقشة. والمعرفة التي تنتجها تدعو إلى الإعتراف. هذه الحقيقة مجالها الفضاء العام، أي السياسي، حيث تتواجه المتخيلات وتوضع أنصاف الحقائق تحت السؤال ويكشف التلاعب بآراء الناس ومشاعرهم. ثم إن التشديد على الحقيقة من أجل المصالحة يصل بنا إلى أن نغفر من غير أن ننسى، في حين تأخذنا الممارسة الشائعة، التي نسميها بوس اللحى، إلى أن ننسى من غير أن نغفر.
في أيامنا الحاضرة يدفعنا كلام السياسة السائد وكلام الإعلام إلى النسيان بلا غفران. وعندها تُستخدم الذاكرة انتقائياً لتجعل السياسة بمنزلة خناقة ليس لها آخر، تتجدد يوماً بعد يوم وكأننا باقون على شفير الحرب.
* مدير معهد فارس للسياسات العامة والعلاقات الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت